ذكرى هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ـ 1 ـ للدكتور محمد كنون الحسني

ذكرى هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ـ 1 ـ للدكتور محمد كنون الحسني

ذكرى هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم

ـ 1 ـ

إن في حياة الأمم والشعوب مناسبات خالدة، وذكريات متميزة يحتفلون بها كلما حلت ذكرها ودار الحول على تاريخها ووقتها، يستحضرونها لأخذ العبر من أحداثها والدروس من أبطالها، ويستغلون مناسباتها لتعليم الأبناء وإرشاد الأجيال الصاعدة إلى سبل الأباء والأسلاف في بناء الأمجاد، وإن لنا معشر المسلمين مناسبات ومحطات لوعدنا إليها ووقفنا على أحداثها واستنبطنا العبر والدروس من أفعال رجالها لكانت لنا نبراسا وهدى لا نظل معه ولا نشقى، نذكر هذا  والعالم الإسلامي سيحتفل قريبا بحلول العام الهجري الجديد 1440، الذي يذكرنا بهجرة خير الأنام صلوات الله وسلامه عليه، من مكة إلى المدينة حيث ساد المسلمون وسارت الدعوة في طريق النجاح، تلك الذكرى التي لا نجد لها مثيلا في التاريخ الحديث ولا في القديم، فمهما قلبنا صفحات التاريخ على طوله لا نظفر بحادثة ترتب عليها ما ترتب على الهجرة من الآثار الجليلة في الإصلاح الاجتماعي وترقية النفوس والأرواح، وبث مكارم الأخلاق، وتنعيم القلوب بما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فقد علمتنا هجرته صلى الله عليه وسلم ـ إن كنا نقبل التعليم ـ أن نطلب العز ولا نقيم على الذل،”وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ”، أن نذكر دائما أن الباطل مهما كثرت أعوانه وقويت شوكته لابد أن تنهار دعائمه فيبقى أمام الحق مغشيا عليه يملؤه الخزي وتعلوه الكآبة يتوارى من القوم من سوء ما نزل به، علمتنا الهجرة أن نمقت الباطل وأهل الباطل وأن نجاهد في سبيل الحق بكل ما يمكننا من الوسائل، علمتنا الهجرة أنه يجب علينا في سبيل الحق والدفاع عن الدين أن نضحي بكل غال ورخيص، علمتنا الهجرة أن لانتصار الحق أسبابا وعوامل أهمها توحيد الكلمة في شجاعة وصبر وجلد وإيمان.

  فبالهجرة تحققت الأمنيات وتأسست دولة الإيمان على العز والنصر المبين، وانتشر الإسلام فحلت العقيدة الصحيحة السليمة مكان الفاسدة الواهية، وأصبحت الانتصارات تتلاحق وتتزاحم، وطويت بذلك صفحات الشرك والضلال، فتفتحت قلوب الناس لتوحيد الله وعبادته، وانساقت عن طواعية واختيار لطاعته وطاعة رسوله والتمسك بكتابه وسنة نبيه، وأصبح الإسلام يغزو القلوب والأفكار وينتشر بين الناس انتشار الرياح في الأقطار، فبالهجرة أتم الله سبحانه وتعالى على المومنين نعمته وأكمل لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وبها كسر شوكة الباطل وفرق قوته.

فقد بعث الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وليضع عنهم إصرهم وأغلالهم التي كانت عليهم ، وليشيد لهم مدنية سامية يتفيئون ظلالها ويرتقون بها ذروة المجد والسؤدد ما استمسكوا بهذه المدنية الإسلامية الصالحة لكل عصر ومصر، ونشأ صلى الله عيه فقيرا أميا في بيداء جاهلية، فكان في أول حياته يتقلب من حضانة إلى حضانة ومن وصاية إلى وصاية، وجعل يرعى الغنم ويشتغل بالتجارة أجيرا، وهو مع ذلك ينقطع إلى عبادة الله الملك العلام إلى أن نزل عليه الوحي وأمر بتبليغه، فبدأ بأهله وعشيرته، ثم جعل ينشر دعوته شيئا فشيئا بين قومه، ويقول لقريش ولسائر العرب ”  قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۖ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ” و”  وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۖ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ” و”  وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ “. هذه من الوصايا التي جاء بها زعيم الإنسانية وإمامها سيدنا محمد بن عبد الله الكفيلة بحقن الدماء وحفظ السلام ونشر لواء المحبة والإخاء بين جميع الأمم والأفراد والجماعات، وهي سبيل الديموقراطية الحقة التي تصبوا إليها جميع الأمم. تلا صلى الله عليه وسلم على مسامع العرب هذه الفضائل الكريمة فلم يستجب له إلا قليل ممن هدى الله ، أما جمهورهم من ذوي المكانة والقدر فقد كبر عليهم ما يدعوهم  إليه ، وكرهوا أن يفارقوا ما ألفوا عليه آباءهم من عبادة الأوثان وإن باينت العقل وجانبت المحجة. وهكذا التقليد الضار يقعد الأمم عن النهوض ويصد العزائم عن المضي، ويحول بين المرء ونور العلم، فهو الجهل ونذير الفناء، وقد رضيت قريش بهذا التقليد فقالوا : ” إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ” ثم ما لبثوا أن تمردوا على الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه فأذاقوهم ألوان العذاب وضروب الآلام ليرجعوا عن دينهم فلا يزيدهم ذلك العذاب إلا فناء في الحق وإمعانا في الصبر وحبا لله ورسوله، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فأوذي بصنوف الإيذاء وأنواعه، خنقوه ووضعوا سلال الجزور على ظهره وهو يصلي، ووضعوا القذر على بابه والأشواك في طريقه و …و… و …فما نال منه الإيذاء. وعبثا حاول هؤلاء الذين لم يدركوا المعاني السامية إغراءه عن طريق المال والمجد والملك، حيث قالوا له: إن كنت تريد مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كنت تريد شرفا سودناك علينا حتى لانقطع أمرا دونك، فما كان صلى الله عليه وسلم طالبا لملك ولا مال ولا جاه، وإنما هو رسول رب العالمين لتبليغ هدايته إلى الناس أجمعين.

وانظر إلى الإيمان النبوي لما جاءت قريش إلى عمه أبي طالب ليحول بينه وما بين ما يريد، فقال صلى الله عليه وسلم: والله ياعمي لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه.

مكث صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة يدعوا قومه إلى عبادة الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، فلم يزدهم دعاؤه إلا نفورا واستكبارا، ونال أذى شديدا وتهويلا وتهديدا من أبي جهل وأبي لهب وعقبة ابن أبي معيط وغيرهم من المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلها آخر  فسوف يعلمون، وكان أبو جهل لعنه الله كثيرا ما ينهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند البيت، فقال له أول مرة بعد أن رآه يصلى: ألم أنهك عن هذا ؟ فأغلظ له صلى الله عليه وسلم القول وهدده، فقال: أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي ناديا ، فأنزل الله سبحانه وتعالى في ذلك”  أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ  عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ  أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَىٰ  أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَىٰ أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ  أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ  كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ  فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ  سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ” فلما كثر عليه  صلى الله عليه وسلم وعلى أتباعه الإيذاء وأحيط بالعداوة من كل جانب والشر من كل جهة، وضاق عليه الفضاء والتمس كل وسيلة للبقاء، فلم يجد الوسيلة، ولم يكن لهذا من سبب إلا أنه يريد حماية الإنسانية ويريدها عزيزة، ويأبى التقليد والغرور والحرمان من نعمة التمييز بين الخير والشر والضار والنافع ، لأنهما يطمسان نور العقل ويردان الفطرة إلى أسفل السافلين، فكان من الطبيعي أن يلتمس الوسائل لردع أولئك السفهاء ، وشق طريق للحرية وللحق حتى يصلا إلى مأمن يقيهما هذه الشرور الجامحة، ويبعدها عن نيران هذه البشرية البهيمة، ليؤدي الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم رسالته عن ربه وينجلي ليل الوثنية وزمن عبادة المادة، ويسطع نور الوحي الإلهي ليملأ القلوب طمأنينة ويواسي الضعفاء وينزل الجبابرة من مكانهم العلي إلى مأوى العباد، ويصيح بالناس جميعا: ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” فهداه تفكيره بإلهام من الله إلى أن طلائع النصر ستأتي من قبل المدينة وأنها ستكون مقر الهداية ومبعث النور، فأمر أصحابه بالهجرة إلى يثرب والخروج سرا وفرادى حتى لا يثيروا ثائرة قريش عليهم، وبدأ المسلمون يهاجرون متفرقين لكن قريشا فطنت للأمر فحاولت أن ترد كل من استطاعت رده إلى مكة لتفتنه عن دينه أو تعذبه وتنكل به، وتتابعت هجرة المسلمين إلى يثرب ومحمد صلى الله عليه وسلم مقيم حيث هو لا يعرف أحد هل اعتزم الإقامة أم قرر الهجرة حتى إذا أذن الله له بالهجرة فأسر بها إلى صديقه الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فسأله الصحبة فقال:نعم، ثم أخذ أبو بكر يهيئ الزاد واتفقا على الخروج تحت ستار الليل حتى لايراهما أحد، وعلى الرغم من كل هذا فقد علمت قريش بما عزم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم فهاج هائجهم واجتمعوا للنظر في الأمر.

                                                            ـ يتبع  ـ