ذكرى هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ـ 2 ـ للدكتور محمد كنون الحسني

ذكرى هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ـ 2 ـ للدكتور محمد كنون الحسني

ذكرى هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم

ـ 2 ـ

تحدثنا في العدد الماضي عن الأحداث التي سبقت الهجرة النبوية وما عاناه الرسول صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين وتسلطهم على من آمن من قريش واعتنق الإسلام ، ونتحدث اليوم عن هذا الحدث العظيم وكيف خرج نبي الهدى صلى الله عليه وسلم من بيته ومسقط رأسه مهاجرا من أجل نشر دين الله وتبليغ الرسالة التي أمر بتبليغها لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.

 لما أذن الله سبحانه وتعالى لنبيه بالهجرة أسر بها إلى صديقه الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فسأله الصحبة فقال:نعم، ثم أخذ أبو بكر يهيئ الزاد واتفقا على الخروج تحت ستار الليل حتى لايراهما أحد، وعلى الرغم من كل هذا فقد علمت قريش بما عزم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم فهاج هائجهم وذهبوا إلى دار الندوة يتشاورون  فيما يفعلون فاتفقت كلمتهم بعد مناقشة ومجادلة على أن يختاروا من كل قبيلة شابا جلدا ويحيطوا بدار النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا خرج ضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل فلا يستطيع بنوا هاشم وبنوا المطلب أن يطالبوا بدمه، فأتاه جبريل وأخبره بمكر القوم ونزل قوله تعالى: ” وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ” وفي هذه الليلة أمر صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن ينام في فراشه وأن يتسجى ببردته ليظن القوم أنه محمد، وقال له إنه لن يصل إليك شيء تكرهه منهم، فخرج صلى الله عليه وسلم وأخذ حفنة من تراب فرماها في وجوههم وهو يتلو قوله تعالى: ” وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ” فلم يبق رجل منهم إلا در على رأسه ترابا ثم انصرف، فأتاهم آت وهو إبليس فقال: خرج محمد عليكم ثم ما ترك منكم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا، فوضع كل منهم يده على رأسه فوجده، ثم جعلوا يتطلعون فوجدوا عليا على الفراش مسجى ببرد النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون والله إنه لمحمد عليه برده، فلم يبرحوا حتى أصبحوا فقام علي من الفراش فقالوا له أين صاحبك؟ قال لا أدري، وذهب صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر وسار إلى غار ثور بقرب مكة، فلما علموا بخروجه جعلوا يقتفون أثره حتى وقفوا على باب الغار، بحيث لو نظر أحدهم تحت قدميه لرءاهما، وأمر الله العنكبوت فنسجت على باب الغار نسجا متراكبا بعضه على بعض كنسج أربعين سنة، ولما انتهوا إلى فم الغار قال أمية ابن خلف: وما أربكم إلى الغار إن عليه لعنكبوتا أقدم من ميلاد محمد، وأقبل فتيان قريش من كل بطن بسيوفهم  فلما كانوا على أربعين ذراعا من الغار تعجل بعضهم فنظر فيه فلم ير إلا حمامتين وحشيتين قد باضتا في فم الغار مع العنكبوت، فقال: ليس فيه أحد، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ما قال: فعرف أن الله قد درأ عنه ، ولما وقفوا على الغار قال أبو بكر يارسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا واشتد حزن أبي بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال يارسول الله: إن قتلت أنا فإنما أنا رجل واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة، فقال له عليه السلام: لا تحزن إن الله معنا، أي بالهداية والمعونة والنصر والطمأنينة، فأنزل الله سكينته عليه أي على أبي بكر، وأيده أي النبي صلى الله عليه وسلم بجنود لم تروها أي الملائكة، أنزلهم الله عليه في الغار يحرسونه ويصرفون أبصار الكفار عن رؤيته ويبشرونه بالنصر على أعدائه وأعمى الله أبصار المشركين، ثم انصرفوا ورد الله كيدهم في نحورهم :

                       ظنوا الحمام وطنوا العنكبوت على              خير البرية لم تنسج ولم تــحم

                       وقاية الله أغنت عن مضاعفــة               من الدروع وعن عال من الأطم 

ومكثا في الغار ثلاث ليال حتى انقطع الطلب فخرجا وسارا متتبعين طريق الساحل حتى وصلا إلى المدينة بعد سبعة أيام وخرج الصحابة والمومنون للقياه صلى الله عليه وسلم  وولائد الأنصار يرددون النشيد التاريخي الخالد:

                                                طلع البدر علينـا      من ثنيات الـوداع

                                               وجب الشكر علينا      ما دعــا لله داع

                                               أيها المبعوث فينـا       جئت بالأمر المطاع

وهنا حدث ولا حرج عن فرح أهل المدينة بمقدم إمام المرسلين وخاتم النبيئين سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه الذين أرشدونا إلى التضحية بأنفسنا وأموالنا في سبيل الحق والذود عن العقيدة وعلمونا كيف يكون الصبر على الأذى وكيف يكون التوكل على الله والثقة به مع الأخذ بالأسباب.

 فيجب على المسلمين إذ يستقبلون سنتهم الجديدة ويستحضرون ذكر تلك الهجرة ويقرءون أسبابها وآثارها، وأن الله بها أتم على المومنين نعمته وأكمل لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وبها كسر شوكة الباطل وفرق قوته، يجب أن يذكروا دائما أن الباطل مهما كثرت أعوانه وقويت شوكته لابد أن تنهار دعائمه فيبقى أمام الحق مغشيا عليه يملؤه الخزي وتعلوه الكآبة يتوارى من القوم من سوء مانزل به، تلك سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا، ويذكروا أن للانتصار الحق أسبابا وعوامل تتلخص في توحيد الكلمة في شجاعة وصبر وجلد وإيمان، وما انتصر أصحاب الهجرة، إلا لتوحيد كلمتهم وشجاعتهم وصبرهم، وقد كان لهم من كل ذلك الفتح والنصر، وأن يذكروا أن رجال الهجرة أودوا في سبيل الله وتوالت عليهم المحن والبلايا ولم يكن الإيداء على شدته ليزيدهم إلا إيمانا وتثبيتا، يجب أن يذكر المسلمون كل هذا ثم يرجعوا إلى أنفسهم لينظروا أين هم من هؤلاء الذين شروا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله، والذين أبوا على أنفسهم وعلى دينهم إلا الكرامة والعزة، ولينظروا أين هم من أوامر هذا الدين وأحكامه وآدابه  وأخلاقه، سيرى المسلمون أن الآية قد انعكست فيهم حيث آلوا إلى الاتكال والكسل وتركوا العمل والجد والصبر، فبالإيمان الصادق والإخلاص في العمل ارتفع شأن العرب والمسلمين، وبتوطين النفس على نصرة الدين والحق وتحمل كل المكروهات في سبيل ذلك  ساد الإسلام والمسلمون في شتى أقطار الأرض.

فيجب على الأمة التي ترغب في صلاح أمرها وإعادة عزها ومجدها أن تهاجر إلى الله ورسوله بترك المعاصي والإقبال على الطاعات وعمل الخير لنفع المسلمين، فقد أبقى لنا رسولنا الكريم حظنا من الهجرة وهو حظ لا ينقطع إلى يوم القيامة، أخرج البخاري مرفوعا ” المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هاجر ما نها الله عنه” فالنبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث يرينا أن الإسلام ينظر إلى ثمرة الهجرة قبل النظر إلى مظاهرها فظاهرها انتقال من مكان إلى مكان، وباعثها وثمرتها يتعلقان بالروح والنية الحسنة والقصد الجميل، وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله: ” إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه”

وبالجملة فإن حادث الهجرة النبوية درس عملي للعظة والاعتبار، يجب أن تعلم منه أن تكون أعمال الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم هي القدوة ، وأن لاتلهينا المدنية الحديثة وزخرف الدنيا عما في الأخلاق والدين من جمال، وأن يكون  الإخلاص والصبر والجد في العمل شعار المؤمن، فما أحوجنا اليوم إلى جعل هذه الذكرى النافعة مناسبة لتوحيد الكلمة وضم الصفوف وجمع الشمل في وقت طغت فيه المنافع الفردية وحب الأثرة، فاختلفت النزعات وتشعبت السبل وتنوعت المشاكل الاجتماعية، فقلت سبل الخير وضاعت مقاصد السعادة والنجاح، وإن خير ما ينفع الأمم في حياتها المستقبلية أن تنظر إلى حياتها الماضية وتتخذ لها منها منارا يهديها ويرشدها.

إن هذا الانتصار الرائع الذي حققه الرسول صلى الله عليه وسلم بسبب الهجرة يجب أن يكون منطلقا للمسلمين ومغزى وعبرة يربطون من خلاله الماضي بالحاضر، يحثون السير والخطى  ويتلمسون السبل والطرق التي سار عليها السلف الصالح، لعلنا نصل إلى الغاية المرجوة والهدف الأسمى الذي هو عز هذه الأمة ومجدها ووحدة صفها، وأن نحقق فينا قوله سبحانه وتعالى: ” ولله العزة ولرسوله والمومنين”.

نسأله سبحانه أن يهل هذه السنة باليمن والبركة على الأمة الإسلامية، وبالخير والسعادة والصحة والهناء على مولانا أمير المومنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله وعلى ولي عهده المحبوب مولاي الحسن، وعلى سائر أفراد أسرته الكريمة وعامة أبناء شعبه الوفي إنه سميع مجيب.