الرقية الشرعية للدكتور محمد كنون الحسني

الرقية الشرعية

خَلَقَ اللهُ البَشَرَ وابتلاهم بالمِحَنِ والبَلايَا ، فلا تَخلُو حيَاةُ بَشَرٍ مِن نَكَدٍ، ولا يَصْفُو وَقْتُهُ مِنْ كَدَرٍ، فَمَنْ رَضِيَ فلَهُ الرِّضَا، ومَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخَطُ , والمؤمِنُ أمرُهُ خَيرٌ إنْ أصابَتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكَانَ خيرًا لهُ، وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فكَانَ خيرًا لهُ.

وإنَّ مِنْ أعظَمِ مَصَائِبِ البَشَرِ الابتِلاءُ بالأمْرَاضِ والأسْقامِ ، والأوجاعِ والأوهامِ! ومن حِكمَةِ الباري أنْ يبتليَ العبَادَ !كما قال: ( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ).

والأمْراضُ والهُمُومُ وإنْ كَانَتْ ذَاتَ مَرَارَةٍ وشِدَّةٍ بادئَ الأمرِ، إلاَّ أنَّ البَاري جَلَّ شأنهُ جَعَلَ لها حِكَمًا وفَوائِدَ ، فقَدْ أحصَى الإمامُ أبنُ القَيِّمِ أكثَرَ من مِائَةِ فائدةٍ فقالَ: ” انْتِفاعُ القَلبِ والرُّوحِ بالآلامِ والأمْرَاضِ أمْرٌ لا يُحسُّ بهِ إلا مَنْ فيهِ حَياةٌ، فصِحَةُ القُلُوبِ والأرْواحِ موقُوفَةٌ على آلامِ الأبْدانِ ومَشَاقِها”، قال تعالى : (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) ، و قال صلى الله عليه وسلم: ( إنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلاَءِ ، وَإنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ قَوْماً ابْتَلاَهُمْ ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا ، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْط).

ومن فوائدِ البلاءِ: أن نُدركَ أنَّ الإسلامَ جَاءَ لِيُحَافِظَ على بَني البَشَرِ، فلا استَسلامَ للمَرَضِ! بل أمَرَ الإسلامُ بالتَّدَاوي، وكَانَ مِنْ هَدي النَّبَيِّ صلى الله عليه وسلم فِعلُ التَّداوي في نفْسِهِ والأمرُ بهِ لمَنْ أصَابَهُ مَرَضٌ مِنْ أهلِهِ وأصْحَابِهِ، فكانَ يَقُولُ : ( تَدَاوُوا عِبادَ اللهِ، ولا تَتَدَاوَوْا بِحَرامٍ )، بَلْ أخْبَرَ أنَّ ( لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ).ومن رحمةِ اللهِ وحكمتهِ أنَّهُ لم يَجعَلْ شِفائَنَا في ما حَرَّمَ عَلينا ! بل قد أكرمَنَا رّبُّنا جلَّ وعلا بالقرآنِ الكريمِ وجعَلَهُ الشِّفاءَ والْبَلْسمْ فقال أصدقُ القائِلينَ : (وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا) ،وفي هذا الزَّمَنِ حينَ عمَّت أمراضٌ مُتفاقِمةٌ، من صَرَعٍ ومَسٍّ وسِحرٍ وعَيْنٍ، ونَفْسٍ وحَسَدٍ  وهَمٍّ وقَلَقٍ،  وجبَ التَّذكيرُ بِنصوص الْوَحْيَيَنِ، فقد أشرَقَت الآياتُ القرآنيةُ والأدعِيةُ النَّبويَّةُ بأعظمِ بُرهانٍ وأروعِ بَيانٍ، أنَّهما الشِّفاءُ والهُدى والرَّحمةُ والنُّورُ، والْمُجَرِّبُ يُبصِرُ ذلِكَ بالعَيَانِ، ألم يَقُلِ المولى في  مُحكَمِ القرآنِ:( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ).

فالأمراض الحسية هي الأمراض التي يُعاني منها عموم الناس، فمثل هذه الأمراض يجوز التداوي لها بالأدوية الطبية المعروفة، ويجوز كذلك أن تستخدم لها الرقية الشرعية، كما ثبت (عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال لثابت البناني رحمه الله: ألا أرقيك برقية رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال بلى، قال : اللهم رب الناس، مُذهب البأس، اشفِ أنت الشافي، لا شافي إلا أنت شفاءً لا يغادر سقماً). وكما ثبت (عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه، أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعاً يجده في جسده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل: بسم الله ثلاثاً، وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر.

والمقصود أن مشروعية الرقية ثابتة ثبوتاً قطعياً في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد قال تعالى:( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ))،  والشفاء الذي يكون بالقرآن يشمل أمرين اثنين: شفاء القلوب من الكفر والنفاق والمعاصي، وشفاء الأبدان من الأمراض التي تُصيبها، وبهذا يتبين أن الرقية جائزة بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رقي النبي صلى الله عليه وسلم من الأوجاع والأمراض المعروفة، ورقي كذلك من المس الشيطاني، كما جاءت بذلك الأحاديث الثابتة.

وأما عن كيفية الرقية الشرعية، فإنها تجوز بالآيات القرآنية، وبالأدعية الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتجوز أيضاً بالأدعية الجائزة المشروعة، والأفضل هو الاقتصار على الآيات القرآنية والأدعية. قال الإمامُ ابنُ القَيِّمِ رحمه الله: “فالقرآنُ هو الشِّفاءُ التَّامُّ من جميعِ الأدواءِ القَلبِيَّةِ والبَدَنيَّةِ إذا أَحْسَنَ العَلِيلُ التَّداويَ به، وكيف تُقاوِمُ الأدواءُ كلامَ ربِّ الأرضِ والسَّماءِ ! الذي لو نَزَلَ على الْجِبَالِ لَصَدَّعَها، أو على الأرض لَقَطَّعَها “.

وأما الشروط التي يجب أن تتوفر في الرقية الشرعية فهي:

1- أن تكون الرقية بكلام الله وبأسمائه وصفاته وآياته القولية، وبالأدعية المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

2- أن تكون بالكلام العربي أو الكلام المفهوم الذي يُعرف معناه، فلا يجوز الرقية بكلام غير مفهوم، أو رموز لا يعرف معناها. قال ابن حجر رحمه الله: “أجمع العلماء على جواز الرقية عند اجتماع ثلاثة شروط: أن تكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي، أو بما يعرف معناه من غيره، ويعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بأمر الله عز وجل”.

3-  أن تكون الرقية خالية من المحرمات ومن الشرك بالله تعالى.، من ذلك مثلا ألا تكون رقية سحرية، حيث بيّن جلَّ وعلا أن الساحر لا يفلح أبداً، فقال سبحانه:﴿ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ﴾، وألا تكون الرقية من عرّاف أو كاهن ولو لم تكن سحرية ،بل يجب أن تكون من ذوي العلم وأهل التقوى والصلاح.

4- أن يعتقد الراقي والمرقى أن الرقية سبب من الأسباب، وأنها لا تُؤثِّر بذاتها؛ بل بتقدير الله تعالى.

5- أن تكون كتابة الرقية إذا كانت من القرآن أو السنة بالكتابة المعروفة العادية، فلا يجوز كتابة الكلام مقلوباً أو معكوساً، كما يفعل أهل الضلال والجهل.

    • ألا تكون الرقية بهيئة محرمة ،كأن يتعمد الراقي-حال الرقية- أن يكون جنباً، أو في مقبرة، أو في حمام، أو حال كتابته للطلاسم، أو حال نظره في النجوم، أو يتلطخ بالدماء، أو النجاسات وغيرها من الأحوال السيئة.

    • ألا تكون الرقية بعبارات محرمة ،كالسب أو اللعن، لأن الله لم يجعل الدواء والشفاء في المحرم. أما عن كيفية الوصول إلى درجة الراقي لمداواة الناس، فيكون بالاتصاف بالآداب الشرعية، ومراقبة الله تعالى بعدم استغلال حاجة الناس، وبالحذر الشديد من الغرور والكبر إذا وفق الله الراقي لأن يكون سبباً في الشفاء من المرض، بل يجب أن يرجع ذلك إلى فضل الله وتوفيقه.

ومما ينبغي أن يُراعى في أثناء الرقية، هو عدم الخلوة بالنساء الأجنبيات إذا احتجن إلى من يرقيهن، بل يكون ذلك في حضور أهل المرأة بحيث يصبح الجلوس لرقيتها مسموح به شرعاً.

بعد الحديث عن الرقية الشرعية وشروطها لا بُدَّ من كشف أحوال من يدعي الرقية وهو مسترزق مدع للصلاح والفلاح وهو من أهل الكذب والفجور ، ومنعِ من يتطرَّق إلى مجال الرُّقيَة وهو عارٍ عن ردائها، وكفِّ من يتقحَّمُ علاجَ النفوس وهو بعيدعن معرفة أدوائها، فضلاً عن دائِها.

وحماية الأمة من الجَهَلة وأهل التكدير، ممن يكذبون على العباد ويلجؤون إلى النصب والاحتيال للسطو على أموال الناس، فهذا راقٍ يُسفسِطُ بكتابةٍ غامضةٍ ويُتمتِمُ، وآخرُ يُهرطِقُ بمُبهَم الكلام ويُدمدِم فذاك وسواسٌ من الشيطان، وآخرُ يقطعُ بأن الداء عين، والعائِنُ من ذوي القُرْبى، وما درَى أنه أتى الحُمقَ وقطع الأرحامَ وأردَى.

وآخرُ لا ينفكُّ عن ضربٍ مُبرِّحٍ يهدِمُ الجلامِيد، فكيف بالجسم المُعنَّى العميد، ويزعُمُ -في بُهتان- أن العذابَ الأليمَ للمارِدِ لا للإنسان، وآخر يأمر بخروج الزوج والأخ والأب لينفرد بالمرأة ويفعل بها ما يريد بدعوى العلاج وفك التثقيف.

وجُلُّ هؤلاء الأدعياء يُموِّهون بإظهار سمتِ العُقلاء التُّقاة، وإن هم إلا من المُخادِعين الدُّهاة، المُحتالين لابتزازِ أموال الناس، وقد يُزجُّ بوصَفَاتٍ تُروِّجُ للوَهم، واستغلال ربَّات الخُدُور بما يجُرُّ إلى البلايا والشرور، وإنك لواجِدٌ في عالم المرأة مع هؤلاء الدجاجِلة ما يُذهِلُ الألباب، ويُثيرُ العَجَبَ العُجاب.

فكيف وقد أصبحت الرقية الشرعية مهنة تحل لها العيادات وتهيأ لها البطاقات، وتنشر على الجرائد والمجلات، وينتصب لها الشباب ممن يدعون المعرفة والصلاح، والقدرة على علاج جميع الأمراض والعلل، والكآبة ومس الشيطان، فمن أين لهم هذا هل من علم مكتسب بالدراسة والكد والتحصيل، أم بصلاح وعبادة وتدرج في مسالك الصالحين من الأولياء؟؟؟

إنه والله نصب واحتيال من هؤلاء الدجلة والنصابين، واعلموا أن طَلُب الرُّقيةِ وإنْ كانَ جائِزاً في الأصلِ إلا أنَّ الأفضلَ أنَّ الْمُسلِمَ يَرقِي نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ لِمَا فيه من صِدقِ التَّوَكُّلِ على الله ورُسُوخِ اليَقِينِ‏ الذي هو أعظمُ علامَاتِ الإيمانِ، إنَّ على المريضِ أنْ يلجَأَ إلى رَبِّه بالدُّعاءِ وطَلَبِ رَفْعِ ما أصَابَهُ , فاللهُ تعالى يَقولُ: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ.