الإحسان

د.محمد كنون الحسني
إن السعادة هدف منشود، ومطلوب جميلٌ يَسعى إليه البشر جميعًا، بل كلُّ مخلوق يسعى لِما فيه راحته وأُنسه، وللسعادة أبواب ومفاتيح تُستجلَب بها، وهي كثيرة؛ فمنها: تقوى الله – عز وجل – ومُراقبته في السرِّ والعلانية، والقيام بما أوجَب الله تعالى من حقوقه وحقوق عباده، وهناك باب من أبواب السعادة وتحصيل الأُنس، يَغفُل عنه كثيرٌ، وهو سهَلُ المنال، قريب المأخذ، وعاقبته جميلة، وأجره كبير، إنه الإحسان إلى الناس، وتقديم الخدمة لهم بما يُستطاع، فالخلق عيالُ الله، وأحبُّ الخَلق إلى الله أنفعُهم لعياله، والإحسان إلى الخَلق من تمام الإحسان في عبادة الله؛ قال تعالى: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)) .

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “من رفق بعباد الله رفق الله به، ومن رحمهم رحمه، ومن أحسن إليهم أحسن إليه، ومن جاد عليهم جاد عليه، ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن منعهم خيره منعه خيره، ومن عامل خلقه بصفة عامله الله بتلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة، فالله لعبده حسب ما يكون العبد لخلقه” .
الإحسان كالمسك ينفع حامله وبائعه ومشتريه، وقد ثبت في الحديث بينما رجل يمشي بطريق إذ اشتد عليه العطش ، فوجد بئرا ، فنزل فيها ، فشرب ، فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش ، فقال الرجل : لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني ، فنزل البئر فملأ خفه ، ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب ، فشكر الله له فغفر له ، فقالوا : يا رسول الله ! وإن لنا في البهائم لأجرا ؟ فقال : ” في كل ذات كبد رطبة أجر ” فبشربة ماء غُفِر الله ذنوبه، وبشربة ماء سُتِرت عيوبه، وبشربة ماء رَضِى عنه ربُّه، إنها الرحمة التي أسكنَها الله القلوب، إنها الرحمة التي يَرحم الله بها الرُّحماء، ويفتح بها أبواب البركات والخيرات من السماء، بُعِث بها سيِّد الأوَّلين والآخرين؛ كما قال ربُّنا في كتابه المبين: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)
والإحسان ثلاثة أنواع،
الأول: الإحسان فيما بين العبد وبين ربه في عبادته إياه وهو أعلى مراتب الدين وقد فسره النبي (بأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، ومعنى ذلك أن العبد يعبد الله تعالى على استحضار قربه منه وأنه بين يديه كأنه يراه وذلك يوجب الخشية والتعظيم ويوجب النصح في العبادة وإحسانها. فالإحسان أعلى مراتب الدين وأعظمها. وأهله هم المستكملون لها السابقون للخيرات، المقربون في علو الدرجات.وإذا كان الإسلام هو الأركان الظاهرة عند التفصيل واقترانه بالإيمان. والإيمان إذ ذاك هو الأركان الباطنة، فإن الإحسان هو تحسين الظاهر والباطن. وأما عند الإطلاق فإنه يشمل الدين كله. والمحسنون في الإحسان على درجتين متفاوتتين:
الدرجة الأولى: وهي أعلاهما. وهي (أن تعبد الله كأنك تراه). يشير إلى أن العبد يعبد الله على هذه الصفة، وهي استحضار قربه، وأنه بين يديه كأنه يراه، وذلك يوجب الخشية، والخوف، والهيبة، والتعظيم، والنصح في العبادة، وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها. وهذه العبادة – أي عبادة الإنسان ربه كأنه يراه – عبادة طلب وشوق؛ وعبادة الطلب والشوق يجد الإنسان من نفسه حاثا عليها، لأن هذا هو الذي يحبه، فهو يعبده كأنه يراه، فيقصده وينيب إليه ويتقرب إليه سبحانه وتعالى.
الدرجة الثانية: أن تعبد الله كأنه يراك ويراقبك عن قرب، والمعنى إذا لم تستطع أن تعبد الله كأنك تراه وتشاهده رأي العين، فانزل إلى المرتبة الثانية، وهي أن تعبد الله موقنا بأنه يراك ويراقبك.فالأولى: عبادة رغبة وطمع، والثانية: عبادة خوف ورهب. وكلاهما. مرتبتان عظيمتان. لكن الأولى أكمل وأفضل، فعبادة الله على وجه المراقبة والطلب أكمل من عبادته على وجه الخوف والرهب .قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: (قوله صلى الله عليه وسلم: فإن لم تكن تراه فإنه يراك) .قيل: إنه تعليل للأول، فإن العبد إذا أمر بمراقبة الله في العبادة، واستحضار قربه من عبده، حتى كأن العبد يراه، فإنه قد يشق ذلك عليه، فيستعين على ذلك بإيمانه بان الله يراه، ويطلع على سره وعلانيته وباطنه وظاهره، ولا يخفى عليه شيء من أمره، فإذا حقق هذا المقام، سهل عليه الانتقال إلى المقام الثاني، وهو دوام التحديق بالبصيرة إلى قرب الله من عبده ومعيته، حتى كأنه يراه.
والنوع الثاني من أنواع الإحسان: الإحسان في العمل الوظيفي والمهني: بأن تخلص وتنصح وتتقن وتحسن في عملك، تقوم بواجبك ولا تغش في عملك أو صنعتك أو بيعك وشرائك، وهذا مقتضى الأمانة، قال تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) وفي الحديث: (مرَّ النبي بالسوق فوجد رجلاً جالساً أمام صُبرة طعام، فأدخل النبي يده فيها ليعرف جودته، فخرجت يده مبتلة، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ فقال الرجل: أصابته السماء يا رسول الله، يعني نزل عليه المطر، فقال له موجهاً ومنبهاً هلّا جعلت ذلك في ظاهره، من غشّنا ليس منا).
النوع الثالث: الإحسان إلى الغير وهو معاملة الخلق بخلق القرآن ووفق سيرة النبي العدنان صلى الله عليه وسلم بالرأفة والرحمة والعطف والتعاون وحب الخير للجميع، معاملة الوالدين بالبر والإحسان، ومعاملة الزوجة بالمودة والرحمة، ومعاملة الأبناء بالعطف والحنان، ومعاملة الجيران بالحسنى، وجميع خلق الله بالوفاء والصِّدق والعدل والرَّحمة والتواضع والصَّبر والاحتمال والتسامح والقول الحسن، وذلك بأن تخاطبوهم بالكلام الطيب، الذي يجلب المودة، ويرغب في الخير، ويؤلف القلوب.وأن تعاملَهم بما تحبُّ أن يعاملوك به، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم ببسط الوجه وحُسن الخلق)، (رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى)، ولقد أمر الله بالإحسان إلى الخلق تارة أمر وجوب كالإحسان إلى الوالدين والأقارب بمقدار ما يحصل البر والصلة والإحسان إلى الجار والضيف وملك اليمين قال تعالى: وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتمى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم وتارة أخرى أمر الله بالإحسان إلى الخلق أمر استحباب وندب فإن بذل المعروف وتقديم البر والخير إلى الناس هو صفة أصحاب القلوب الحية الرحيمة التي تتجاوب مع حاجات المسلمين وتعيش همومهم وتقلق لمصابهم، إن الذي يقدم الإحسان إلى إخوانه ويسعى في قضاء حوائجهم وتفريج كروبهم وتنفيس ضوائقهم هو ذلك الرجل الشهم الأبي الذي لا يعيش لنفسه فقط ولا يحقق مصالحه فقط وهو بهذا البذل والجود والإخلاص والتفاني لا يريد من أحد جزاءً ولا شكوراً ولا يريد مدحاً ولا مالاً ولا منزلة في قلوب الناس ولكنه يريد الثواب من الله ويريد موعود الله ويريد محبة الله ومعيته، إن الله مع الذين اتقو والذين هم محســــنون يريد المحسن تفريج كرباته يوم القيامة، ويريد الفلاح والفوز بالجنة ويريد الخيرية في الدنيا والآخرة لأن خير الناس أنفعهم للناس، وافعلوا الخير لعلكم تفلحون عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة))متفق عليه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه)).

إن الإحسان إلى الخلق أمر واسع الأبواب وقربة إلى الله من أعظم القربات فهو يقوي روابط المسلمين ويشعرهم بالوحدة والمحبة والحنان والصلة ويبني روابط الأخوة ويزيل ضغائن القلوب ويقوي صفاءها فتنشرح النفوس ويشعر المنصور والمظلوم والفقير وصاحب الحاجة والكربة والضائقة يشعر أنه ليس غريباً بين إخوانه ولا مهملاً بين المسلمين وأن مصابه مصابهم وقضيته تعنيهم فعند ذلك تتحقق الأخوة في الإسلام وتزداد الرحمة بين الناس والإحسان يكون بالكلمة الطيبة، ويكون بتقديم الخدمة وقضاء الحاجة، عن أبي موسى عن النبي قال: ((على كل مسلم صدقة، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: فيعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق، قالوا: فإن لم يستطيع أو لم يفعل؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف، قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: فليأمر بالمعروف، قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: فليمسك عن الشر فإنه صدقة)) ،م ويكون الإحسان بالصدقة، يقول صلى الله عليه وسلم ((اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم يكن فبكلمة طيبة))، ويكون الإحسان بالرفق والمعاملة الحسنة ولين الكلام وخفض الجناح عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف)) ، ومن الإحسان إلى المسلمين التعاون فيما بينهم على الحق فعن أبي موسى عن النبي : ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ثم شبك بين أصابعه)) ، ومن الإحسان الشفاعة لأخيك المسلم قال تعالى: من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ، ويكون الإحسان كذلك بالنصرة والمؤازرة قال : ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً))، ويكون الإحسان بحسن العهد والوفاء والمروءة وحفظ السر والصبر على الأذى واحتمال الزلة وصيانة اللسان عما يكره أخوك وإدخال السرور على قلبه وإبعاد ما يسؤه.

أيها المسلم امسح دموع اليتيم واعطف على المسكين وقم بحاجة أخيك وفرج هم المهموم ونفس كرب المكروب واعلم أن من يقدم الخير يحصد الخير في الدنيا والآخرة.
هل تريد أن تُنَفّس كربتُك ويزولَ همُك؟ فرج كربات المساكين .. هل تريد التيسير على نفسك؟ يسر على المعسرين .. هل تريد أن يستر الله عليك؟ استر عباد الله . والجزاء من جنس العمل.

.. تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة .. واعلم أن الإحسان إلى الخلق سيعود إليك صداه ولو بعد حين .. وأن الصدقة ولو بالقليل تفعل الشيء الكثير إذا وافقت إخلاصًا من المتصدق وحاجة عند الفقير، والبحث عن صاحب الحاجة اليوم عزيز، إذ اختلط الحابل بالنابل، وأفسد الكاذب على الصادق . فينبغي للمتصدق أن يتحرّى في صدقته المحتاجين دون المحتالين .