هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم

هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم

بمناسبة ذكرى هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم
وحلول السنة الهجرية الجديدة 1437

إن في حياة الأمم والشعوب مناسبات خالدة، وذكريات متميزة يحتفلون بها كلما حلت ذكرها ودار الحول على تاريخها ووقتها، يستحضرونها لأخذ العبر من أحداثها والدروس من أبطالها، ويستغلون مناسباتها لتعليم الأبناء وإرشاد الأجيال الصاعدة إلى سبل الأباء والأسلاف في بناء الأمجاد، وإن لنا معشر المسلمين مناسبات ومحطات لوعدنا إليها ووقفنا على أحداثها واستنبطنا العبر والدروس من أفعال رجالها لكانت لنا نبراسا وهدى لا نظل معه ولا نشقى، نذكر هذا والعالم الإسلامي يحتفل هذا الأسبوع بحلول العام الهجري الجديد 1431، الذي يذكرنا بهجرة خير الأنام صلوات الله وسلامه عليه، من مكة إلى المدينة حيث ساد المسلمون وسارت الدعوة في طريق النجاح، تلك الذكرى التي لا نجد لها مثيلا في التاريخ الحديث ولا في القديم، فمهما قلبنا صفحات التاريخ على طوله لا نظفر بحادثة ترتب عليها ما ترتب على الهجرة من الآثار الجليلة في الإصلاح الاجتماعي وترقية النفوس والأرواح، وبث مكارم الأخلاق، وتنعيم القلوب بما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فقد علمتنا هجرته صلى الله عليه وسلم ـ إن كنا نقبل التعليم ـ أن نطلب العز ولا نقيم على الذل،”وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ”، أن نذكر دائما أن الباطل مهما كثرت أعوانه وقويت شوكته لابد أن تنهار دعائمه فيبقى أمام الحق مغشيا عليه يملؤه الخزي وتعلوه الكآبة يتوارى من القوم من سوء ما نزل به، علمتنا الهجرة أن نمقت الباطل وأهل الباطل وأن نجاهد في سبيل الحق بكل ما يمكننا من الوسائل، علمتنا الهجرة أنه يجب علينا في سبيل الحق والدفاع عن الدين أن نضحي بكل غال ورخيص، علمتنا الهجرة أن لانتصار الحق أسبابا وعوامل أهمها توحيد الكلمة في شجاعة وصبر وجلد وإيمان.
فبالهجرة تحققت الأمنيات وتأسست دولة الإيمان على العز والنصر المبين، وانتشر الإسلام فحلت العقيدة الصحيحة السليمة مكان الفاسدة الواهية، وأصبحت الانتصارات تتلاحق وتتزاحم، وطويت بذلك صفحات الشرك والضلال، فتفتحت قلوب الناس لتوحيد الله وعبادته، وانساقت عن طواعية واختيار لطاعته وطاعة رسوله والتمسك بكتابه وسنة نبيه، وأصبح الإسلام يغزو القلوب والأفكار وينتشر بين الناس انتشار الرياح في الأقطار، فبالهجرة أتم الله سبحانه وتعالى على المومنين نعمته وأكمل لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وبها كسر شوكة الباطل وفرق قوته.
فقد بعث الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وليضع عنهم إصرهم وأغلالهم التي كانت عليهم ، وليشيد لهم مدنية سامية يتفيئون ظلالها ويرتقون بها ذروة المجد والسؤدد ما استمسكوا بهذه المدنية الإسلامية الصالحة لكل عصر ومصر، ونشأ صلى الله عيه فقيرا أميا في بيداء جاهلية، فكان في أول حياته يتقلب من حضانة إلى حضانة ومن وصاية إلى وصاية، وجعل يرعى الغنم ويشتغل بالتجارة أجيرا، وهو مع ذلك ينقطع إلى عبادة الله الملك العلام إلى أن نزل عليه الوحي وأمر بتبليغه، فبدأ بأهله وعشيرته، ثم جعل ينشر دعوته شيئا فشيئا بين قومه، ويقول لقريش ولسائر العرب ” قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۖ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ” و” وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۖ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ” و” وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ “. هذه من الوصايا التي جاء بها زعيم الإنسانية وإمامها سيدنا محمد بن عبد الله الكفيلة بحقن الدماء وحفظ السلام ونشر لواء المحبة والإخاء بين جميع الأمم والأفراد والجماعات، وهي سبيل الديموقراطية الحقة التي تصبوا إليها جميع الأمم. تلا صلى الله عليه وسلم على مسامع العرب هذه الفضائل الكريمة فلم يستجب له إلا قليل ممن هدى الله ، أما جمهورهم من ذوي المكانة والقدر فقد كبر عليهم ما يدعوهم إليه ، وكرهوا أن يفارقوا ما ألفوا عليه آباءهم من عبادة الأوثان وإن باينت العقل وجانبت المحجة. وهكذا التقليد الضار يقعد الأمم عن النهوض ويصد العزائم عن المضي، ويحول بين المرء ونور العلم، فهو الجهل ونذير الفناء، وقد رضيت قريش بهذا التقليد فقالوا : ” إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ” ثم ما لبثوا أن تمردوا على الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه فأذاقوهم ألوان العذاب وضروب الآلام ليرجعوا عن دينهم فلا يزيدهم ذلك العذاب إلا فناء في الحق وإمعانا في الصبر وحبا لله ورسوله، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فأوذي بصنوف الإيذاء وأنواعه، خنقوه ووضعوا سلال الجزور على ظهره وهو يصلي، ووضعوا القذر على بابه والأشواك في طريقه و …و… و …فما نال منه الإيذاء. وعبثا حاول هؤلاء الذين لم يدركوا المعاني السامية إغراءه عن طريق المال والمجد والملك، حيث قالوا له: إن كنت تريد مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كنت تريد شرفا سودناك علينا حتى لانقطع أمرا دونك، فما كان صلى الله عليه وسلم طالبا لملك ولا مال ولا جاه، وإنما هو رسول رب العالمين لتبليغ هدايته إلى الناس أجمعين.
وانظر إلى الإيمان النبوي لما جاءت قريش إلى عمه أبي طالب ليحول بينه وما بين ما يريد، فقال صلى الله عليه وسلم: والله ياعمي لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه.
مكث صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة يدعوا قومه إلى عبادة الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، فلم يزدهم دعاؤه إلا نفورا واستكبارا، ونال أذى شديدا وتهويلا وتهديدا من أبي جهل وأبي لهب وعقبة ابن أبي معيط وغيرهم من المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون، وكان أبو جهل لعنه الله كثيرا ما ينهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند البيت، فقال له أول مرة بعد أن رآه يصلى: ألم أنهك عن هذا ؟ فأغلظ له صلى الله عليه وسلم القول وهدده، فقال: أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي ناديا ، فأنزل الله سبحانه وتعالى في ذلك” أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَىٰ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَىٰ أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ” فلما كثر عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أتباعه الإيذاء وأحيط بالعداوة من كل جانب والشر من كل جهة، وضاق عليه الفضاء والتمس كل وسيلة للبقاء، فلم يجد الوسيلة، ولم يكن لهذا من سبب إلا أنه يريد حماية الإنسانية ويريدها عزيزة، ويأبى التقليد والغرور والحرمان من نعمة التمييز بين الخير والشر والضار والنافع ، لأنهما يطمسان نور العقل ويردان الفطرة إلى أسفل السافلين، فكان من الطبيعي أن يلتمس الوسائل لردع أولئك السفهاء ، وشق طريق للحرية وللحق حتى يصلا إلى مأمن يقيهما هذه الشرور الجامحة، ويبعدها عن نيران هذه البشرية البهيمة، ليؤدي الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم رسالته عن ربه وينجلي ليل الوثنية وزمن عبادة المادة، ويسطع نور الوحي الإلهي ليملأ القلوب طمأنينة ويواسي الضعفاء وينزل الجبابرة من مكانهم العلي إلى مأوى العباد، ويصيح بالناس جميعا: ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” فهداه تفكيره بإلهام من الله إلى أن طلائع النصر ستأتي من قبل المدينة وأنها ستكون مقر الهداية ومبعث النور، فأمر أصحابه بالهجرة إلى يثرب والخروج سرا وفرادى حتى لا يثيروا ثائرة قريش عليهم، وبدأ المسلمون يهاجرون متفرقين لكن قريشا فطنت للأمر فحاولت أن ترد كل من استطاعت رده إلى مكة لتفتنه عن دينه أو تعذبه وتنكل به، وتتابعت هجرة المسلمين إلى يثرب ومحمد صلى الله عليه وسلم مقيم حيث هو لا يعرف أحد هل اعتزم الإقامة أم قرر الهجرة حتى إذا أذن الله له بالهجرة فأسر بها إلى صديقه الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فسأله الصحبة فقال:نعم، ثم أخذ أبو بكر يهيئ الزاد واتفقا على الخروج تحت ستار الليل حتى لايراهما أحد، وعلى الرغم من كل هذا فقد علمت قريش بما عزم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم فهاج هائجهم واجتمعوا للنظر في الأمر.
لما أذن الله سبحانه وتعالى لنبيه بالهجرة أسر بها إلى صديقه الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فسأله الصحبة فقال:نعم، ثم أخذ أبو بكر يهيئ الزاد واتفقا على الخروج تحت ستار الليل حتى لايراهما أحد، وعلى الرغم من كل هذا فقد علمت قريش بما عزم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم فهاج هائجهم وذهبوا إلى دار الندوة يتشاورون فيما يفعلون فاتفقت كلمتهم بعد مناقشة ومجادلة على أن يختاروا من كل قبيلة شابا جلدا ويحيطوا بدار النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا خرج ضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل فلا يستطيع بنوا هاشم وبنوا المطلب أن يطالبوا بدمه، فأتاه جبريل وأخبره بمكر القوم ونزل قوله تعالى: ” وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ” وفي هذه الليلة أمر صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن ينام في فراشه وأن يتسجى ببردته ليظن القوم أنه محمد، وقال له إنه لن يصل إليك شيء تكرهه منهم، فخرج صلى الله عليه وسلم وأخذ حفنة من تراب فرماها في وجوههم وهو يتلو قوله تعالى: ” وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ” فلم يبق رجل منهم إلا در على رأسه ترابا ثم انصرف، فأتاهم آت وهو إبليس فقال: خرج محمد عليكم ثم ما ترك منكم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا، فوضع كل منهم يده على رأسه فوجده، ثم جعلوا يتطلعون فوجدوا عليا على الفراش مسجى ببرد النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون والله إنه لمحمد عليه برده، فلم يبرحوا حتى أصبحوا فقام علي من الفراش فقالوا له أين صاحبك؟ قال لا أدري، وذهب صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر وسار إلى غار ثور بقرب مكة، فلما علموا بخروجه جعلوا يقتفون أثره حتى وقفوا على باب الغار، بحيث لو نظر أحدهم تحت قدميه لرءاهما، وأمر الله العنكبوت فنسجت على باب الغار نسجا متراكبا بعضه على بعض كنسج أربعين سنة، ولما انتهوا إلى فم الغار قال أمية ابن خلف: وما أربكم إلى الغار إن عليه لعنكبوتا أقدم من ميلاد محمد، وأقبل فتيان قريش من كل بطن بسيوفهم فلما كانوا على أربعين ذراعا من الغار تعجل بعضهم فنظر فيه فلم ير إلا حمامتين وحشيتين قد باضتا في فم الغار مع العنكبوت، فقال: ليس فيه أحد، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ما قال: فعرف أن الله قد درأ عنه ، ولما وقفوا على الغار قال أبو بكر يارسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا واشتد حزن أبي بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال يارسول الله: إن قتلت أنا فإنما أنا رجل واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة، فقال له عليه السلام: لا تحزن إن الله معنا، أي بالهداية والمعونة والنصر والطمأنينة، فأنزل الله سكينته عليه أي على أبي بكر، وأيده أي النبي صلى الله عليه وسلم بجنود لم تروها أي الملائكة، أنزلهم الله عليه في الغار يحرسونه ويصرفون أبصار الكفار عن رؤيته ويبشرونه بالنصر على أعدائه وأعمى الله أبصار المشركين، ثم انصرفوا ورد الله كيدهم في نحورهم :
ظنوا الحمام وطنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تــحم
وقاية الله أغنت عن مضاعفــة من الدروع وعن عال من الأطم
ومكثا في الغار ثلاث ليال حتى انقطع الطلب فخرجا وسارا متتبعين طريق الساحل حتى وصلا إلى المدينة بعد سبعة أيام وخرج الصحابة والمومنون للقياه صلى الله عليه وسلم وولائد الأنصار يرددون النشيد التاريخي الخالد:
طلع البدر علينـا من ثنيات الـوداع
وجب الشكر علينا ما دعــا لله داع
أيها المبعوث فينـا جئت بالأمر المطاع
وهنا حدث ولا حرج عن فرح أهل المدينة بمقدم إمام المرسلين وخاتم النبيئين سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه الذين أرشدونا إلى التضحية بأنفسنا وأموالنا في سبيل الحق والذود عن العقيدة وعلمونا كيف يكون الصبر على الأذى وكيف يكون التوكل على الله والثقة به مع الأخذ بالأسباب.
فيجب على المسلمين إذ يستقبلون سنتهم الجديدة ويستحضرون ذكر تلك الهجرة ويقرءون أسبابها وآثارها، وأن الله بها أتم على المومنين نعمته وأكمل لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وبها كسر شوكة الباطل وفرق قوته، يجب أن يذكروا دائما أن الباطل مهما كثرت أعوانه وقويت شوكته لابد أن تنهار دعائمه فيبقى أمام الحق مغشيا عليه يملؤه الخزي وتعلوه الكآبة يتوارى من القوم من سوء مانزل به، تلك سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا، ويذكروا أن للانتصار الحق أسبابا وعوامل تتلخص في توحيد الكلمة في شجاعة وصبر وجلد وإيمان، وما انتصر أصحاب الهجرة، إلا لتوحيد كلمتهم وشجاعتهم وصبرهم، وقد كان لهم من كل ذلك الفتح والنصر، وأن يذكروا أن رجال الهجرة أودوا في سبيل الله وتوالت عليهم المحن والبلايا ولم يكن الإيداء على شدته ليزيدهم إلا إيمانا وتثبيتا، يجب أن يذكر المسلمون كل هذا ثم يرجعوا إلى أنفسهم لينظروا أين هم من هؤلاء الذين شروا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله، والذين أبوا على أنفسهم وعلى دينهم إلا الكرامة والعزة، ولينظروا أين هم من أوامر هذا الدين وأحكامه وآدابه وأخلاقه، سيرى المسلمون أن الآية قد انعكست فيهم حيث آلوا إلى الاتكال والكسل وتركوا العمل والجد والصبر، فبالإيمان الصادق والإخلاص في العمل ارتفع شأن العرب والمسلمين، وبتوطين النفس على نصرة الدين والحق وتحمل كل المكروهات في سبيل ذلك ساد الإسلام والمسلمون في شتى أقطار الأرض.
فيجب على الأمة التي ترغب في صلاح أمرها وإعادة عزها ومجدها أن تهاجر إلى الله ورسوله بترك المعاصي والإقبال على الطاعات وعمل الخير لنفع المسلمين، فقد أبقى لنا رسولنا الكريم حظنا من الهجرة وهو حظ لا ينقطع إلى يوم القيامة، أخرج البخاري مرفوعا ” المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هاجر ما نها الله عنه” فالنبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث يرينا أن الإسلام ينظر إلى ثمرة الهجرة قبل النظر إلى مظاهرها فظاهرها انتقال من مكان إلى مكان، وباعثها وثمرتها يتعلقان بالروح والنية الحسنة والقصد الجميل، وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله: ” إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه”
وبالجملة فإن حادث الهجرة النبوية درس عملي للعظة والاعتبار، يجب أن تعلم منه أن تكون أعمال الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم هي القدوة ، وأن لاتلهينا المدنية الحديثة وزخرف الدنيا عما في الأخلاق والدين من جمال، وأن يكون الإخلاص والصبر والجد في العمل شعار المؤمن، فما أحوجنا اليوم إلى جعل هذه الذكرى النافعة مناسبة لتوحيد الكلمة وضم الصفوف وجمع الشمل في وقت طغت فيه المنافع الفردية وحب الأثرة، فاختلفت النزعات وتشعبت السبل وتنوعت المشاكل الاجتماعية، فقلت سبل الخير وضاعت مقاصد السعادة والنجاح، وإن خير ما ينفع الأمم في حياتها المستقبلية أن تنظر إلى حياتها الماضية وتتخذ لها منها منارا يهديها ويرشدها.
إن هذا الانتصار الرائع الذي حققه الرسول صلى الله عليه وسلم بسبب الهجرة يجب أن يكون منطلقا للمسلمين ومغزى وعبرة يربطون من خلاله الماضي بالحاضر، يحثون السير والخطى ويتلمسون السبل والطرق التي سار عليها السلف الصالح، لعلنا نصل إلى الغاية المرجوة والهدف الأسمى الذي هو عز هذه الأمة ومجدها ووحدة صفها، وأن نحقق فينا قوله سبحانه وتعالى: ” ولله العزة ولرسوله والمومنين”.
نسأله سبحانه أن يهل هذه السنة باليمن والبركة على الأمة الإسلامية، وبالخير والسعادة والصحة والهناء على مولانا أمير المومنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله وعلى ولي عهده المحبوب مولاي الحسن، وعلى سائر أفراد أسرته الكريمة وعامة أبناء شعبه الوفي إنه سميع مجيب