فضل العشر الأواخر من رمضان وليلة القدر للدكتور كنون الحسني
فضل العشر الأواخر من رمضان وليلة القدر للدكتور كنون الحسني
فضل العشر الأواخر من رمضان وليلة القدر
استقبلنا بالأمس شهر الصيام فكان منا فريق أجاب الدعوة وامتثل لأمر الله فجعل من هذا الشهر محطة للرجوع إلى نفسه ومحاسبتها على ما اقترفته خلال شهور وأيام السنة، فأسلم وجهه لله رب العالمين وعصم نفسه عن الشهوات وحفظ جوارحه من الذنوب والآثام، وحرص على التخلق بالخلق الحسن والسير على منهج التربية القويم، فكان هذا الشهر بالنسبة إليه شهر العبادة والتربية والسلوك، فأولئك من الذين أنعم الله عليهم طاب دينهم في دنياهم وعظم أجرهم في أخراهم، وكان منا فريق غلبت عليه شهوته وخانته قوته ولم يجد في قلبه من وازع الدين أو الحياء ما يمنعه من الإفطار ففسق عن أمر ربه واستوى عنده في رمضان الليل والنهار، ولم يستغل هذه الفرصة التي منحه ربه للتدبر والتفكر , والتوبة والمغفرة, والعودة إلى النفس ومحاسبتها على ما بدر منها, وتربيتها على السلوك الحسن والسيرة المثلى.
فشهر رمضان المنوه بقدره في القرآن قد دخل في عشره الأواخر وأسرعت أيامه في الانصراف، وعما قريب يودعنا بخيره وبركاته، فاغتنم أخي المسلم ماتبقى من أيامه واستدرك مافاتك من إكرامه، فلعلك لا تدركه في السنة المقبلة، ولا تأخرك المنون إلى استكماله وإتمامه، ولقد دخلنا في عشره الأواخر ذات القدر الجليل والأجر العظيم، فاجتهد فيها كل الاجتهاد، وتقرب فيها لربك بكل أنواع العبادات، فقد كان أعبد الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يكثر فيها القيام ليتأسى به المسلمون ويجتهدون، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر من رمضان مالا يجتهد في غيرها”. وفيه أيضا عنها أنها قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر أحيا ليله وأيقظ أهله وشد مئزره” وفي هذا إشارة إلى فضل هذه الليالي وفضل قيامها والتقرب إلى الله فيها بشتى أنواع العبادات،ودعوة إلى التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في فعله ونهجه فيها.
وتيمموا في هذه العشر ليلة تفتح فيها أبواب القبول، ويمنح فيها السائل سؤله، ويغفر الله ذنبه ويقبل توبته، ليلة اختارها الله على سائر ليالي الدهر، وجعلها سلاما حتى مطلع الفجر، قال تعالى: ” إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ،سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ ” ليلة القدر هي الليلة المباركة التي بدئ فيها نزول القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم وسطع فيها نور الفرقان على بني الإنسان، وهي إحدى ليلي شهر رمضان، قال تعالى: “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان” فبين أن الشهر الذي بدئ فيه نزول القرآن هو شهر رمضان، وقال في بيان الليلة التي أفاض سبحانه رحمته فيها على خلقه بابتداء نزول كتابه: ” إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين، فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين” فبين أن الليلة التي بدئ فيها نزول الذكر الحكيم هي ليلة مباركة كثيرة الخير، تسمى ليلة القدر أي ليلة العظمة والشرف لأن الله قد أعلى فيها منزلة نبيه وشرفه وعظمه بالرسالة وبالوحي إليه بالكتاب الخالد، منح الله فيها عباده المتعبدين أجر ألف شهر، فقد كان الرجل فيما مضى لا يستحق أن يقال له عابد حتى يعبد الله تعالى ألف شهر، فجعل الله لأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليلة مباركة هي خير من ألف شهر، روى مالك في الموطا أنه سمع من يثق به من أهل العلم يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أعمال الناس قبله أوما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لايبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم مع طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر خيرا من ألف شهر، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر فعجب المسلمون من ذلك فأنزل الله ” ليلة القدر خير من ألف شهر”وزاد في فضلها ومضاعفة الأعمال فيها نزول القرآن فيها وهو أعظم الكتب، وقد تضافرت الأحاديث الصحيحة والآثار الثابتة أنها في رمضان في العشر الأواخر منه، وأنها باقية تتكرر كل سنة مرة، وهي ليلة سبع وعشرين عند أكثر العلماء استنادا لما في صحيح مسلم عن زر بن حبيش، قال سألت أبي بن كعب، قلت إن أخاك ابن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر؟ فقال رحمه الله: أراد أن لايتكل الناس، أما أنه قد علم أنها في رمضان، وأنها في العشر الأواخر، وأنها ليلة سبع وعشرين، ثم حلف لايستثني أنها ليلة سبع وعشرين، فقلت بأي شئ تقول ذلك يأبا المنذر؟ فقال بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنها تطلع الشمس يومئذ لاشعاع لها، وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر من رمضان مالا يجتهد في غيرها، وعن زينب بنت سلمة قالت: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحدا من أهله يطيق القيام إلا أقامه.
ومن فضائل هذه الليلة وبركاتها أن الملائكة تنزل فيها إلى سماء الدنيا من غروب الشمس إلى طلوع الفجر يستغفرون للمومنين ويصعدون بأعمال المتقين، أخرج البيهقي في كتاب الثواب له من حديث ابن عباس أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ” إذا كانت ليلة القدر يأمر الله عز وجل حبريل عليه السلام فيهبط في كبكبة من الملائكة ومعهم لواء أخضر فيركز اللواء على ظهر الكعبة وله ستمائة جناح منها جناحان لاينشرهما إلا في تلك الليلة، فينشرهما فيتجاوزان المشرق والمغرب فيحث أي يفرق جبريل عليه السلام الملائكة في هذه الليلة فيسلمون على كل قائم وقاعد ومصل وذاكر ويصافحونهم ويؤمنون على دعائهم حتى يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر ينادي جبريل عليه السلام معاشر الملائكة الرحيل الرحيل، فيقولون ياجبريل فما صنع الله في حوائج المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: نظر الله إليهم في هذه الليلة فعفا عنهم وغفر لهم إلا أربعة، فقلنا يارسول الله من هم؟ قال: رجل مدمن خمر وعاق لوالديه وقاطع رحم ومشاحن. قلنا يارسول الله ومن المشاحن؟ قال هو المصارم ويعني الذي يهجر أخاه المسلم فوق ثلاثة أيام وروى ابن أبي شيبة عن أبي هريرة مرفوعا: ” إن الملائكة في ليلة القدر أكثر في الأرض من عدد الحصا” ، وأخرج الشيخان عن أبي هريرة مرفوعا: “من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه”. وروى أصحاب السنن عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ” قلت يا رسول الله أرايت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول؟ قال قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني”.
فاغتنم أخي المسلم هذا الفضل العظيم وتعرض لنفحات الرب في هذه المناسبة الجليلة، وعمر هذه الليلة بالطاعات التي ورد فضلها عن الله ورسوله، وخلصها من البدع والرذائل التي تخالف أصول هذا الدين وفروعه، وصنها عن اللغو والعبث والصخب والرفث، وتقرب فيها إلى الله سبحانه وتعالى بما تقدر عليه من الأعمال الصالحة.