بمناسبة عيد العرش المجيد للدكتور محمد كنون الحسني

بمناسبة عيد العرش المجيد للدكتور محمد كنون الحسني

بمناسبة عيد العرش المجيد

ان في تاريخ كل امة من الأمم أحداثا جليلة ومواقف خالدة حقق الله لها فيها نصرا مبينا وفتحا مكينا، وجعلها فاتحة عهد جديد ومفتاح صحوة ويقظة بعد كبوة وغفوة، ولقد دخلت أمتنا التاريخ من أوسع أبوابه وسجل رجالها من الأحداث والمواقف ما يصعب عده ووصفه، فسجلوا صفحات ذهبية فرضت نفسها على جميع الكتاب والمؤرخين، كما تداولت على عرش هذه الأمة دول إسلامية مجيدة أخذت على عاتقها خدمة الدين والعروبة فساهمت في نشر الحضارة الإسلامية بين مختلف الشعوب والأنام ، وناضلت من أجل الحفاظ على الدين الإسلامي وتنقيته من الشوائب والزوائد، فوحدت هذا الوطن تحت راية الإسلام وجعلت له دولة وصولة وشخصية فذة بين الأمم، وتحملت كل دولة من الدول الإسلامية المتعاقبة عليه مسؤوليتها التاريخية في المحافظة على الدين ورعاية مصالح رعاياها المسلمين، وعلى هذا الأساس قامت الدولة العلوية الشريفة التي اختارتها العناية الإلهية الحكيمة لتتسلم مقاليد الأمر بهذه الديار, فجمع الله قلوب المغاربة منذ ما يقرب من أربعة قرون على الولاء والطاعة لإمامة البيت العلوي الشريف، فكان أهله سندا عظيما للمغرب ورجاله من القادة العظام أهل تدبير وسياسة وبناء، حرروا ما وجدوه مغتصبا من أطراف المغرب وسواحله، وحصنوا المدن وبنوا المعاقل ووحدوا الشمل وأمنوا الديار، يهدون بأمر الله ويطبقون شريعته ويحيون السنن والواجبات ويميتون البدع والضلالات، حتى إذا جاء العصر الحديث وتكالبت قوى الاستعمار على هذا البلد الأمين جاء دور بطل المغرب وفقيد العروبة والإسلام جلالة الملك محمد الخامس طيب الله ثراه الذي ناضل وكافح ووقف أمام تحديات الاستعمار بصبر وأناة، لم ينل منه تهديد ولا نفي وإبعاد، فأعاد للمغرب كيانه واستقلاله ووحدته وشخصيته، حتى إذا أجاب داعي ربه, رحل إلى رحمة الله ورضوانه آمنا مطمئنا وقد ترك المغرب في أيدي أمينة وتحت ظلال ولي عهده ووارث سره الذي احتفل الشعب بتولية عهده ، وبايعه بيعة إسلامية على كتاب الله وسنة رسوله من بعده فانتصب رحمه الله إماما شرعيا للمغاربة وواصل مسيرة الجهاد الأكبر على الصعيد الوطني والعربي والإسلامي، وتابع مسيرة التشييد والبناء والنماء، والعمل الذي لا يعرف الكلل والملل للنهوض بهذا البلد الأمين ، فشرع في بناء المغرب الحديث بإقامة السدود وبناء المساجد والمدارس والمعامل والمستشفيات، وتوحيد البلاد, وتحرير ما تبقى من أراضيها مغتصبا, فنظم معجزة القرن وحرر صحراء المغرب بمسيرة حسنية تنم عن عبقرية قل أن يجود الزمان بمثلها, وعمل على بناء دولة الحق والقانون وتأسيس الشورى الاسلامية حتى تكون الأمة المغربية أمرها شورى بينها كما وصف الله سبحانه وتعالى أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى :” وأمرهم شورى بينهم”.

ولما اختاره الله إلى جواره آلت أمور هذا البلد الكريم إلى ملك إلتحم الشعب حوله وبايعه بيعة إسلامية فشق محجته بتدبير وحكمة، ووفر الرصيد الهائل من وسائل العمل وتطوير الأساليب والطرق، فأعطى لأفراد شعبه القاعدة الصلبة لبسط وجودهم على المستوى القاري والركيزة المنيعة لفرض اعتبارهم في المجال الدولي، وأسدل على الأمة رداء التحرير الفكري والاطمئنان المعنوي، وسهر على التجديد والتربية والتكوين، وتطوير دولة الحق والقانون.

فبين ثنايا هذا التاريخ الطويل نقف على أحداث كبرى ومواقف عظمى سجلها المؤرخون بمداد الفخر والاعتزاز، وفي سجل أعمال هؤلاء الأعلام العظام الذين اختارتهم العناية الإلهية الحكيمة ليتسلموا مقاليد الأمر بهذه الديار مواقف وأعمال ومنجزات يعجز المرء عن إحصائها وتعداد محاسنها، فتاريخ هذه الأمة حافل بالأمجاد والأيام العظام التي تستدعي الاستحضار والاحتفال كل ما دار الحول وحل الأجل لتأخذ منها العبر وتجنى منها العظة وتقتبس الذكرى. وبنا أن العرش في المغرب عقيدة واتجاه، ويقين والتزام وتعاقد اجتماعي راسخ الجذور ضارب بأصوله في أعماق التاريخ، جمع الأمة على كلمة واحدة ووحد الصفوف على مبدإ واحد فان المغاربة جعلوا من يوم بيعة ملكهم وتربعه على عرش أسلافه الميامين , عيدا يستحضرون فيف تاريخهم الحافل بالأمجاد والمكرمات, والزاخر بالعطاءات والخيرات، ويستعرضون المنجزات فيتدفق في شرايينهم دم جديد يوحي بالعزم الصادق والإرادة الصلبة للمضي في مرحلة أخرى من مراحل البناء والتشييد، ويحرك قطار تاريخهم صوب الازدهار والنماء ، يعبرون فيه على تعلقهم بملكهم وتوحدهم وراء قائدهم.

وقد تأسس الاحتفال بهذا اليوم العظيم أثناء غمرة النضال والتضحية والفداء من أجل تحرير الوطن واستقلال البلاد، فقد ارتأى الوطنيون الأحرار اللاحتفال بهذا اليوم  للتعبير عن التلاحم الوثيق بين العرش والشعب, وللتعبير عن المحبة الصادقة والولاء الدائم والوفاء المستمر الذي يكنه المغاربة لملكهم، واستعدادهم الدائم للتضحية والكفاح من أجله، يقول الاستاذ” علال الفاسي”: ” ولقد أرادت – الكتلة الوطنية- أن تظهر عمليا عواطف الوطنيين الحقيقية نحو ملكهم العظيم من جهة ، وتفضح الفرنسيين وتكشف عن نفاقهم من جهة أخرى، فاهتدت إلى فكرة سديدة هي تأسيس عيد العرش المغربي يوم 18 نونبر الذي هو يوم جلوس جلالة سيدي محمد ، وقد حل ذلك اليوم وبدأت البلاد تحتفل ، ولكن الإقامة وقفت موقف المندهل الذي يريد منع الاحتفال ولكنه لا يستطيع التجرؤ في التنفيذ، وفعلا لم تستطع الوطنية المغربية أن تجعل من الاحتفال الأول عيدا رسميا ولكنه على كل حال كان يوما تمهيديا للعيد الرسمي الذي أسس في السنة الموالية أي سنة 1934، وهكذا انكشف للجميع أن الكتلة الوطنية لا تمثل إلا الوفاء والإخلاص الذين يحملهما الشعب المغربي نحو عرشه المجيد وملكه العظيم” . ومنذ ذلك اليوم والمغاربة يعبرون كل سنة عن تعلقهم بملكهم ويحتفلون بذكرى بيعته ويجددون ولاءهم واخلاصهم له، فكانوا يغتنمون هذه المناسبة للتعبير عن ارتباطهم بعرش البلاد والدفاع عن مقدساته، وكان الشعراء ينطقون بمشاعر المغاربة ويترجمون شعورهم وما يتطلعون إليه، يقول الأستاذ ” عبد الله كنون” بمناسبة عيد العرش لسنة 1950:

                       العرش حجتنا فمن ذا يـجحد                  حقا يناصره الامام محـــمد

                       علمت شعوب الأرض أنا أمـة                  ليست من النجر الذي يستعبد

                       تاريخنا وجهـــادنا وطموحنا                  تـــأبى علينا أن تداولنا يد

                       تا لله لا نعطي الدنية عن يــد                 أبدا ولو أنا نموت ونلحـــد

ولعل المتأمل في هذه الأبيات بقف على المرمى الحقيقي للاحتفال بهذه الذكرى والمغزى الكامن في استحضار هذا الحدث كل ما مر الحول عليه، انه التشخيص الدائم وعلى مر الحقب والأزمان لعرى التلاحم الوثيق بين العرش والشعب والولاء الدائم والوفاء المستمر الذي يمنه الشعب المغربي لعاهله.

وبعد مجيء الاستقلال وتحرير البلاد من قيود الاستعمار وأغلاله ظل الاحتفال بهذا العيد حاضرا كل سنة شاهدا على تعلق المغاربة بالعرش العلوي وولائهم وإخلاصهم للجالس عليه الذي اختاره الله ليتسلم مقاليد الحكم في هذا البلد السعيد، قائما على أسس دينية ووطنية وتاريخية.

1- قائما على أسس دينية باعتباره بيعة متجددة كل سنة وحمدا لله على ما هيأ لنا في هذا البلد الأمين وأبقى لنا من شروط إمارة المؤمنين بشروطها المعروفة.

2-  قائما على اسس وطنية باعتباره تجسيدا لعلاقة الشعب بالعرش وتعلقهم بأسبابه وارتباطهم بملكهم وتجندهم وراءه،ذلك أن المغاربة منذ أن وعوا الحياة السياسية اقتنعوا بأن الملكية الدستورية هي الأصلح والأبقى, وان العرش هو الرباط المقدس بين الملك والشعب.

3- قائما على أسس تاريخية باعتبار لحظة التأسيس التي تعود إلى أيام النضال من أجل استقلال البلاد والكفاح من أجل الحرية، وباعتبار الاحتفال السنوي هو استحضار لماضي هذه الأمة وأمجادها الغابرة ، ووصف للحاضر ومنجزاته، واستشراف للمستقبل بما يبعثه من دم جديد في نفوس المغاربة من أجل البناء والتشييد.

واليوم وقد حلت الذكرى السابعة عشرة  لاعتلاء صاحب الجلالة محمد السادس نصره الله على عرش أسلافه المنعمين نحتفل بهذا الحدث الغالي ونجدد البيعة لهذا الإمام الشاب المقتدر، شاكرين الله الذي وهبنا في هذا العصر المليء بالاضطرابات والمفاجآت في شتى أنحاء المعمور، وفي هذه الفترة المليئة بالتغيرات والتطورات ملكا مقتدرا في مستوى الأحداث العالمية من جهة، وفي مستوى طموحات الشعب المغربي من جهة ثانية.

         فهنيئا لنا بهذه الذكرى الغالية وهنيئا لنا بهذا الملك العظيم، ونسأل الله أن ينصره ويعينه على ما يصبو إليه من خير ونماء لهذا الموطن العزيز،وأن يعيد عليه أمثال هذا العيد وهو يتمتع بالسلامة والعافية والعمر المديد.