البيعة والخلافة في الإسلام بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب للدكتور محمد كنون حسني

البيعة والخلافة في الإسلام بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب للدكتور محمد كنون حسني

 

                                                                                                          البيعة والخلافة في الإسلام بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب

لقد رفض الإسلام الإكراه في الدين والدنيا، ورغب الناس في استعمال العقل والاقتناع بما يؤمنون به وبما يمارسونه, كما دعا إلى استعمال الحكمة واللين في الدعوة إلى دينه وهداه, واللجوء إلى الشورى في الحكم وتدبير الأمور, ورغب في أسلوب البيعة المفيد في إيقاظ الهمم وإحياء النفوس، وجمع القلوب وتوحيد الصفوف، وتقوية التعاون والإخاء بين الحاكمين والمحكومين، فهو طريق العمل الذي بنى به الرسول صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام وأزال به العقبات التي اعترضت سبيله, ثم طبقه الصحابة من بعده في اختيار خليفة يدبر أمرهم ويسير بهم على الصراط السوي الذي تركهم عليه نبي الإسلام سينا محمد صلى الله عليه وسلم  فبلغهم الأماني وأقالهم العثرات، وجعل عهودهم محفوظة من كل انحراف أو زلل. 

واستمر بعد ذلك أسلوبا عظيما ومنهجا مفيدا في عمارة الأرض وتحقيق الأهداف، وربط أواصر المحبة وجمع القلوب ورص الصفوف وتوحيد الجهود وإزالة العقبات، أدرك العلماء قيمته وتأثيره في النفوس، فتحدثوا عنه بما يوضح معناه، ويبين مدلوله ويظهر المقصود منه, فقد ذهب القرطبي في شرح مسلم إلى أن البيعة مأخوذة من البيع، ذلك أن المبايع للإمام يلزمه أن يقيه بنفسه وبماله، فكأنه بذل نفسه وماله لله تعالى، وقد وعده الله على ذلك بالجنة، ثم هي واجبة على كل مسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: ( من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتتة الجاهلية).

وذكر القلقشندي ( أن البيعات جمع بيعة، وهي مصدر بايع فلان الخليفة فبايعه مبايعة، ومعناها المعاقدة والمعاهدة, وهي مشبهة بالبيع الحقيقي) ، ثم أضاف ناقلا عن ابن الأثير: (كأن كل واحد منهم باع ما عنده من صاحبه, وأعطاه خالصة نفسه ودخيلة أمره).

وقال ابن خلدون: ( إعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة, كأن المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في أمر نفسه, وأمور المسلمين لا ينازعه في شيء من ذلك, ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر في المنشط والمكره، وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيدا للعهد فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري، فسمي بيعة مصدر باع، وصارت البيعة مصافحة بالأيدي، وهذا مدلولها في عرف اللغة ومعهود الشرع). وقد فصل العلماء في أساليب البيعة وطرقها وفرقوا بين العامة والخاصة فيها, فمن كان من أهل الحل والعقد والشهرة، فبيعته بالقول ومباشرته باليد، إن كان حاضرا, وبالقول والإشهاد عليه إن كان غائبا، أما إن كان من عامة الناس وممن لا يؤبه به فيكفي في بيعته أن يعتقد دخوله تحت طاعة الإمام ويسمع ويطيع له في الجهر والسر, ولا يعتقد خلاف ذلك, فإن أضمره ومات, مات ميتة جاهلية, لأنه لم يحمل في عنقه بيعة.

وهكذا يتضح أن البيعة قولية وفعلية, وأن اليد هو التعبير العملي لها, وهي من قبيل التعاون على البر والتقوى, والتضامن والتآزر, فالرعية تعاهد إمامها وتوكله ليقوم بالأمانة وينفذ الشريعة, ويكون راعيا للأمة قائما بشؤونها, فهو ميثاق يحرم نقضه من غير مبرر شرعي, عظم الله شأنه وحذر المومنين من نكثه ومخالفته فقال مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا).

وحذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ( ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده, وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع, فإن جاء آخر ينازعه, فاضربوا عنق الآخر منهما), وقال أيضا: (من أطاعني فقد أطاع الله, ومن عصاني فقد عصا الله, ومن يطع الأمير فقد أطاعني, ومن يعص الأمير فقد عصاني وإنما الإمام ‏ ‏جنة ‏ ‏يقاتل من ورائه ويتقى به فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجرا وإن قال بغيره فإن عليه منه ).

وللبيعة في اصطلاح الفقهاء عدة تعاريف، فقد عرفها بعضهم ( بأنها عقد حقيقي يتم بين الإمام وبين الأمة تنشئه بإرادتها ومحض رضاها، يستمد منه الإمام سلطته، وتترتب التزامات على كل طرف، ويترتب شرطا جزئيا على الطرف الذي يخل بالتزاماته), وعرفها الماوردي بأنها (خلافة عن النبوة يحيط بها الله الملة، ويفوض بها للخليفة السياسة ليصدر التدبير عن دين مشروع, وتجتمع الكلمة على رأي متبوع)

ويعتبر عقد البيعة من العقود المستوجبة لجميع الأركان عند علماء القانون، فقد حدده الدكتور السنهوري بقوله: ( إنه عقد حقيقي، مستوف للشرائط من وجهة النظر القانونية, وأنه تعاقد مبني على الرضا بين الإمام والأمة, وأن الغاية منه أن يكون المصدر الذي يستمد منه الإمام سلطته), كما ذهب إلى أن مفكري الإسلام قد أدركوا جوهر نظرية روسو التي تقول: إن الحاكم أو رئيس الدولة يتولى سلطانه من الأمة نائبا عنها نتيجة لتعاقد جرى بينهما.

وهكذا يتضح أن هذا النظام الذي أقرته الشريعة الإسلامية نظام عظيم فريد من نوعه, لم تعرفه الإنسانية على مدى تاريخها الطويل، ولم تنتبه إليه الفلسفات والإيديولجيات التي تؤسس نظامها على اعتبارات مادية اجتماعية وإنسانية، فهو نظام أساسه الإيمان، وبنيانه بعيد عن الأغراض والمصالح الآنية الدنيوية الفانية، ينطلق من القرآن, ويساهم في خلق الأمة الوسط المؤهلة للإستخلاف في الأرض.

ومن خلال نظرة خاطفة على تاريخ هذه الأمة نقف على صور من إجماع الأمة وبيعتها, فقد تواترت البيعة لأبي بكر الصديق يوم السقيفة، واجتمع الصحابة وبايعوا سيدنا عمر رضي الله عنه وأوجبوا على أنفسهم طاعته وتنفيذ أمره, و تعين سيدنا عثمان من الستة المذكورة في الشورى والبيعة, وبعد وفاته رضي الله عنه كان طلحة والزبير أول من بايع سيدنا علي كرم الله وجهه, ثم تبعه الصحابة في اتفاق وتوافق, وقد تطورت الأمور في زمن علي كرم الله وجهه حتى لقي ربه مدافعا عن دين الإسلام وأسسه ومبادئه, وعن شرعية الخلافة, حريصا على أداء أمانة البيعة التي في عنقه، وقد سارت الأمور بعد ذلك على هذا النحو إلى أن فر حفيده المولى إدريس إلى المغرب وبايعه الناس على طريقة أسلافهم من التابعين المحافظين على السنة والجماعة, فألف خلافة شرعية في ربوع هذه المملكة, استمرت على تعاقب الدول وتلاحق الأزمان متشبتة بتلك الأسس الشرعية التي جاء بها الإسلام والتي أسس لها الخلفاء الراشدون والسلف الصالح من هذه الأمة والقائمة في مجملها على البيعة والشورى والوحدة.

وقد بقي هذا الأصل ثابتا في المغرب سليما مؤسسا على البيعة محافظا على أصالته وشخصيته.حتى بعد انفراط عقد الدولة العثمانية وتشتت أطرافها, شاهدا على هذا النظام لم ينقطع في العالم منذ فجر الإسلام إلى يومنا هذا. حيث ظل صامدا في وجه بعض الإيديولوجيات الحديثة التي غزت العالم الإسلامي، والمحاولات التي قامت به الدول الاستعمارية  لتحريض كثير من البلدان على الاستقلال عن الخلافة باسم القومية والوطنية والديموقراطية.

وتمتاز البيعة في المغرب بكونها تطبيقا حرفيا للمنظور الإسلامي, تنطلق من القرآن والسنة وتتأسس على الاجتهاد في دائرتهما, أما هدفها فتوفير المسائل التي تضمن للأمة الاستقرار والازدهار، وبشكل خاص المساواة في الحقوق والواجبات, وضمان الحريات العامة في مختلف المرافق والمجالات، وهو ما يعبر عنه بضمان حقوق الإنسان، وفتح المجال أمام المبادرات الحرة, ومنح الفرص لمختلف شرائح الشعب في جميع الميادين. فسلطة الإمام خالية من كل استبداد أوديكتاتورية، بل هي اتفاقية بين المحكومين والحاكمين مؤسسة على العدل والمساواة , وتسير على الولاء بين الحاكم والمحكوم, ولعل هذا ما أتاح للمغرب أن يكون جبهة متراصة متحدة، تتحدى كل التكتلات وتتجاوز كل الصعاب. يقول الأستاذ الحسين وجاج:( هذا وإن البيعة في المغرب ما زالت على حالتها الإسلامية المعروفة منذ القديم, يتولى العلماء شؤونها ويبنونها على المقاصد المعتبرة في الإسلام, فكما كانت أول بيعة مغربية للمولى إدريس الفاتح مبنية على الطواعية والرضا, كذالك كانت بيعة الداخلة لمولانا الحسن الثاني المحرر والموحد للبلاد وتكون دائما بيعات المغاربة لملوكهم ذات طابع خاص).