التضامن في الإسلام 1.أسسه للدكتور محمد كنون حسني

التضامن في الإسلام 1.أسسه للدكتور محمد كنون حسني

التضامن في الإسلام

1.أسسه

التضامن مبدأ فطري بين الكائنات البشرية والحيوانية، تقتضيه طبيعة الحياة وصعوبة المحافظة عليها، فلتحقيق الغايات وإنجاز الأعمال وتحقيق الأمن والاطمئنان لابد من التضامن بين الأفراد والجماعات والتكاتف والتعاون الصادق، تلك سنة الله في خلقه تشمل الإنسان والكثير من أنواع الحيوان، ففي المراحل الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ نجد الإنسان قد عاش على شكل جماعات يدافع الأفراد فيها عن بعضهم البعض ويبدون نوعا من التآزر والتعاون من أجل التغلب على مقاسي الطبيعة وعوادي الزمن، كما عاشت الكثير من أصناف الحيوانات على شكل جماعات ووفق تنظيم مكنها من العيش الآمن والدفاع عن صغارها وضعافها.

وفي التاريخ الإنساني مظاهر كثيرة توحي بهذا التضامن فبالإضافة إلى الحياة على شكل جماعات، بنى الإنسان الحصون والأبراج ودافع الرجال عن النساء والشباب عن الشيوخ، وأطعم المكتفي الجائع، وأمن المطمئن الخائف، وآوى المستقر التائه.

وفي التاريخ العربي حضور لأشكال كثيرة من صور التضامن، ففي بلادهم الشحيحة بخيراتها وفي مواسم الجفاف والقحط التي كانت تحل بأرضهم بين الحين والآخر، كثيرا ما كان ينبري محسن كريم يطعم القوم ويغيث المحتاجين منهم، وتحت ظلام الليل ووسط رمال الصحراء يجد العربي التائه من يؤويه ويؤمن من روعه، وفي شدة البرد وكلب الزمن يجلس أهل الثروة والأجواد من العرب للمقامرة بالقداح، وإذا كسب أحدهم جعل نصيبه لذوي الحاجة وأهل المسكنة.

إلا أن هذه المظاهر والصور من التضامن وإن حضرت في هذه المجتمعات فما هي إلا فلتات وغمزات اقتضتها ضرورة الحياة وفرضتها قساوة الطبيعة وضعف الإنسان، وإلا فكيف يمكننا أن نتحدث عن تضامن وتآزر شامل في مجتمع يتسم بالتفاضل والتراتب، يحكمه القوي ويسود فيه الغني ويستعبد الضعيف وصاحب الحاجة. لأن جل الصور المتحدث عنها وأغلب أشكال التضامن والتآزر المشار إليها كانت لغاية أو من أجل تحقيق هدف، فالدفاع عن القوم حماية للنفس، وإجارة الضعيف متبوعة بالمن ومشروطة بشروط، وإطعام الجائع وإغاثة المحتاج كانت للتباهي وطلب المدح والثناء، أو خوفا من اللوم والهجاء.

أما التضامن في الإسلام فهو ركيزة أساسية لبناء مجتمع مثالي يسوده التناصر والتآزر والتواد والتآلف، ينطلق من أصول ثلاثة:

الإيمان الكامل بالله يقول تعالى:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ  الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)الأنفال 2 .3، ويقول عز من قائل: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) التوبة 71 ويقول أيضا: (ۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)المائدة 2. فالتضامن في الإسلام لا يقوم إلا على إيمان راسخ وإقبال متزايد على الخير والطاعة، ولا يتمثل في صور محدودة ونماذج معروفة، بل يتسع ويتشعب ليشمل أمورا كثيرة ومظاهر متعددة منها: إغاثة الملهوف، وإعانة المحتاج، وتوجيه التائه، ونصيحة الجاهل، وأداء الأمانة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ….

المساواة بين البشر واعتبار التضامن والتكافل والتراحم من أوجب الواجبات على المسلم تجاه أخيه، يقول صلى الله عليه وسلم: ( إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لافضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى) هذه صورة للمجتمع الذي نتحدث عن التضامن فيه، وهذه أرضية ننطلق منها للحديث عن التآزر والتآخي، فقد انتهت فترة التفاضل والتراتب وأصبح الناس جميعا سواء بعد أن كانوا سادة وعبيدا، وسودا وبيضا، وشيعا وأحزابا، فالناس كلهم لآدم وآدم من تراب، والكريم عند الله من يخافه ويتقيه، وقد كرس الإسلام هذا التساوي والأخوة والوحدة في العبادات والمعاملات، فالإله واحد، والرسول واحد، والدين واحد، والكتاب واحد وهو القرآن الكريم، والالتزام بالجماعة واجب في الصلاة على شكل صفوف متساوية يقف فيها الغني والفقير،والقوي والضعيف، ويوم الجمعة وفي كل عيد يدعو الإسلام إلى اجتماع يؤمه إمام واحد ويتجه فيه المسلمون إلى قبلة واحدة ويصلون ويشكرون ربا واحدا، والزكاة تؤخذ من الأعنياء وترد إلى الفقراء لكي يشعروا جميعا أنهم جسد واحد، ” إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى” وهي ليست منة أو فضلا من الغني بل واجبا وحقا للفقراء في مال الأغنياء قال تعالى: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)الذريات 19، والصيام يوحد بين المسلمين في أوقات الفراغ والعمل، وأوقات الطعام والشراب، ويفرغ عليهم جميعا صفة الإنابة والرجوع إلى الله، والحج يضم أشتات المسلمين في المشرق والمغرب في مكان معلوم (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) الحج 28.

التآخي وحب الخير انطلاقا من الحديث الشريف: ( لايومن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) فمن مظاهر الإيمان الكامل وصوره الواضحة إحساس المؤمن بأخيه، وشعوره بما يشعر به، وتألمه مما يتألم منه، يساعده إذا ضعف، ويوجهه إذا ضل الطريق، ويطعمه إذا جاع، ويجيبه إذا سأل، ويؤويه إذا تاه، فالتضامن في الإسلام مبني على التآخي والحب والوئام لا على التظاهر بالخير والرياء من أجل جلب منفعة أو خوفا من لوم وعتاب، كما هو الحال عند الأمم السابقة وعند الكثير من الناس في هذا الزمان الذين يظهرون التعاون والتضامن مع المستضعفين،  والعطف على الفقير والمحتاج من أجل الرياء والسمعة، أو جريا وراء أغراض دنيوية دنيئة.

هكذا يتضح أن تضامن المسلمين فيما بينهم ليس من باب التطوع أو النافلة بل فريضة من الله، فبمقدار ما يتضامن الأفراد والجماعات ويتحابون في الله بمقدار ما يقتربون من رحمة الله ويكمل إيمانهم وإسلامهم.