تأملات في سورة العصر للدكتور محمد كنون الحسني

تأملات في سورة العصر

 وَالْعَصْرِ إِنَّ اَ۬لِانسَٰنَ لَفِے خُسْرٍ (1) اِلَّا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اُ۬لصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ (2) وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِۖ (3)

 

من أعظم ما أنزله الله عز وجل في القرآن سورة عظيمة فيها من المعاني والعبر, وفيها من التوجيه والنصح ما يعجز الإنسان عن حصره والكلام في معانيه، هي سورة العصر.

سورةٌ ذاتُ آياتٍ ثلاثٍ جَمَعَتْ نهْجَ الإسلام وطريقَه، وأبرزَتْ معالمَ الدين وأركانَه، وتضمنت علوم القرآن وغاياتِه، وذكرت مراتبَ الكمالِ البشريِّ.

سورة في غاية الإيجاز والبيان، أوضحت سعادة أو شقاوة الإنسان، بأخصر عبارة وأجمل بيان، وبينت أسباب الفوز والنجاح من الخسارة والخسران.

سورة قصيرة قليلة الآيات؛ لكنها عظيمة في المعاني والألفاظ والدلالات، يقول عنها الإمام الشافعي رحمه الله: لو ما أنزَل اللهُ حُجَّةً على خَلْقِهِ إِلَّا هذه السورة لَكَفَتْهُم. إنها سورة العصر؛ وما أدراك ما سورة العصر؟!

فعن أبي مدينة الدارميّ قال: كان الرجلان من أصحابِ النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا التقيا لم يفترقا حتّى يقرأ أحدهُما على الأخر (والعصر  إنِ الإنسان لفي خسر..)، ثم يسلم أحدهُما على الآخر. وفي هذا الحديث فائدة وهي التزام الصحابة لقراءة سورة العصر،لأنَّنا نعتقد أنهم أبعد الناس عن أن ٌيحدثوا في الدِّين عبادة يتقرَّبون بها إلى الله، إلاَ أن يكون ذلك بتوقيف من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قولاً، أو فعلاً، أو تقريراً، ولمَ لا، وقد أثنى الله تبارك وتعالى عليهم أحسن الثناء، فقال: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)

وقال ابن مسعود والحسن البصري: مَن كان منكم متأسَّياً فليتأسَّ بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فإنَّهم كانوا أبرَّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلّها تكلّفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً، قوماً اختارهم الله لصحبة نبيِّه -صلى الله عليه وسلم- وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتَّبعوهم في آثارهم، فإنَّهم كانوا على الهدى)

وقال عنها الشافعي -رحمه الله-: “لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم، وما ذلك إلا لما احتوته هذه السورة من بيان لأصول الدين وفروعه، وبيان لسبيل المؤمنين المؤدي للربح والفوز بالجنة والنجاة من النار، وكانَ الصحابةُ الكرامُ -رضيَ اللهُ عنْهُمْ- يقرؤونَهَا إذَا الْتَقَوْا أَوِ افترَقُوا.

بدأ الله هذه السورة بالقَسَمِ بالعصر، وهو الدهر، فقال: والعصر! والعصرُ هو الدهر، والدهر هو أيام الله التي يخلق الله فيها ما يشاء، ويفعل فيها ما يريد، ويحكم فيها بحكمته وإرادته، أقسم الله بالدهر لأهميته، ولتبيين مكانته ولتعظيم منزلته، فهو ميدان العاملين، ومضمار المتسابقين، فمَن استغلَّه في طاعة الله، وعمل فيه على مرضاة مولاه، فقد فاز بالفوز العظيم، ومَن ضيَّعَه في معصية الله فذلك هو الخسران المبين.

وقال بعض المفسِّرين: إن المراد بالعصر في هذه السورة صلاة العصر التي تكون عند منتهى النهار ومقتبل الليل، وهي من أفضل الصلوات عند الله، حيث خصها الله بالذكر، وأقسم بها، فقال:  وَالْعَصْرِ وأمر بالمحافظة الخاصة عليها، فقال -سبحانه وتعالى: ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ)

ويقول -سبحانه-: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ)، يعني صلاة العصر، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه: “مَن صلَّى البردَيْنِ دخل الجنة، والبردان هما الصبح والعصر، وحذَّر -صلى الله عليه وسلم- من التفريط فيها، وعدم المحافظة عليها، أو التكاسل عن القيام بها، فقال -صلى الله عليه وسلم-: “مَن تَرَكَ صلاةَ العَصْرِ فقد حبِطَ عملُه“.

(إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) أقسم الله على أن الإنسان -كل إنسان- في خسارة ونقصان، وضياع وحرمان؛ لأنه يُفضل العاجلة على الآجلة، وتغلبه الأهواء والشهوات، ويطغى عليه حب الذات والماديات.

(إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ)، (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)، (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ)، (وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا )، (وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا ( ، ( وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ( ، ( وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)

(إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ)، كل إنسان، الأبيض والأسود، العربي والأعجمي، كلهم في خسارة وخسران؛ ثم استثنى الله مَن أخذ بأسباب النجاة، وعمل من أجل النجاة وذلك بأمور أربعة: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَواصَوْا بالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بالصَّبْرِ)

أولها الإيمان بالله:

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان قولٌ باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، يزيد بالطاعات وينقص بالعصيان؛ الإيمان يبعث في القلب الثقة بالله، والأنس بالله، والطمأنينة بذكر الله، هو الركن الثاني من أركان الدين بعد الإسلام، وله شروط صعبة لا تنطبق إلا على قليل من الناس، ذكَر اللهُ -جل جلاله- صفاتهم في كتابه العظيم فقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)

وقال في وصفهم: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)

الإيمان، كما فسره جبريل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: “الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره“.  الإيمان دليل على صحة الفطرة وسلامة التكوين الإنساني، وتناسقه مع فطرة الكون كله، ودليل التجاوب بين الإنسان والكون من حوله؛ فهو يعيش في هذا الكون، وحين يصح كيانه لا بد أن يقع بينه وبين هذا الكون تجاوب، ولا بد أن ينتهي هذا التجاوب إلى الإيمان.

ثاني أسباب النجاة العمل الصالح:

(وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، العمل الصالح هو الثمرة الطبيعية للإيمان، والحركة الذاتية التي تبدأ في ذات اللحظة التي تستقر فيها حقيقة الإيمان في القلب؛ فالإيمان حقيقة إيجابية متحركة ما إن تستقر في الضمير حتى تسعى بذاتها إلى تحقيق ذاتها في الخارج في صورة عمل صالح، هذا هو الإيمان الإسلامي لا يمكن أن يظل خامدا لا يتحرك، كامنا لا يتبدى في صورة حية خارج ذات المؤمن، فإن لم يتحرك هذه الحركة الطبيعية فهو مزيف أو ميت؛ شأنه شأن الزهرة لا تمسك أريجها، فهو ينبعث منها انبعاثا طبيعيا، وإلا فهو غير موجود!

ومن هنا تظهر قيمة الإيمان؛ إنه حركة وعمل وبناء وتعمير يتجه إلى الله.. إنه ليس انكماشا وسلبية وانزواء في مكنونات الضمير، وليس مجرد النوايا الطيبة التي لا تتمثل في حركة ، وهذه طبيعة الإسلام البارزة التي تجعل منه قوة بناء كبرى في صميم الحياة.

ثالث أسباب النجاة: التواصي بالحق

 (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ)، التواصي هو التناصح، فالدين النصيحة كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-: “الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم.

يقول الإمام علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: “المؤمنون نصَحَة، والمنافقون غشَشَة، فمَن أراد النجاة فإن من أسباب النجاة التي ذكرها الله في هذه السورة العظيمة التناصح، والتواصي بالحق.

والحقُّ هو الشيء البيِّنُ الواضح، والمقصود به في هذه الآية الكريمة أداء الطاعات وترك المنكرات، فيجب علينا -إن أردنا النجاة- أن نتناصح فيما بيننا، وأن يوصي بعضنا بعضاً، وأن نُفعِّل هذه الفضيلة العظيمة، فضيلة النصيحة، والتناصح بالأسلوب الحسَن، وباللِّين والرفق والستر، عبر جميع الوسائل المتاحة، (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)

ورابع أسباب النجاة وآخرها وأعظمها : التواصي بالصبر

وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ، والصبر هو حبس النفس على طاعة الله، وحبسها عن معصية الله، وحبسها عن التسخُّط من أقدار الله؛ فالمؤمن لن يستطيع مواصلة الطريق إلا بالصبر، فالإيمان يحتاج إلى صبر، والعمل الصالح يحتاج إلى صبر، والنصيحة تحتاج إلى صبر، والمعاصي تحتاج إلى صبر حتى لا يقع الإنسان فيها؛ ولهذا ذكر الله -جل جلاله- الصبر في أكثر من تسعين موضعاً من القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)

فالصبر يجعل المؤمن لا يخاف إلا من الله، ولا يلجأ إلا لله، ولا يخضع لأحد سوى الله، صابراً على طاعة الله، صابراً عن الوقوع في معصية الله، صابراً على أقدار الله المؤلمة: ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)

يقول السعدي -رحمه الله-:” فالإيمان والعمل الصالح يُكمل الإنسان بهما نفسه، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر يُكمل الإنسان بهما غيره، وبتكميل الأمور الأربعة يكون الإنسان قد سلم من الخسارة، وفاز بالربح العظيم“.

 إنَّ هذه السورة تريد أنْ تؤكِّدَ لنا أمراً مهماً، وهو أنه لا نجاة للإنسان، على امتداد الأزمان، وفي كل البلدان، إلا بمنهج واحدٍ هو منهج الرحمن الذي رسمت هذه السورةُ حدودَه، ووضَّحَتْ معالمه، وما عدا هذا المنهج فإنما هو حرمانٌ وضياعٌ وخسرانٌ.

ومن خلال هذه السورة فإن على المسلم أن يستثمر وقته في هذه الحياة؛ بالعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، فتبرز من خلالها صورة الأمة المسلمة -أو الجماعة المسلمة- ذات الكيان الخاص، والرابطة المميزة، والوجهة الموحدة.

الجماعة التي تشعر بكيانها كما تشعر بواجبها، والتي تعرف حقيقة ما هي مقدمة عليه من الإيمان والعمل الصالح؛ الذي يشمل فيما يشمل قيادة البشرية في طريق الإيمان والعمل الصالح; فتتواصى فيما بينها بما يعينها على النهوض بالأمانة الكبرى.

فمتى وُجِد التناصح والتعاون بين الأمة والتواصي بالحق فإن ذلك يقلل الشر ويجعل الإنسان يتصور الخطأ الذي وقع فيه فلا يستمر عليه بل يقلع عنه إلى الصواب.

ومن فوائد التواصي بالحق والصبر عليه: أنه سبب لحفظ الدين والثبات عليه والتمسك بالخلق القويم والبعد عن المناهج المنحرفة الضالة، قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)، وفي الحديث: “الدين النصيحة”، قلنا لمن يا رسول الله قال: “لله ولكتابه ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وفيه أيضا حق المسلم على المسلم، وإذا استنصحك أخوك فانصح له.

ومن فوائد التواصي بالحق والصبر عليه: أنه سبيل للنجاة كما أن المعاصي والآثام سبب للهلاك؛ فالطاعات والأعمال الصالحة سبب للنجاة، قال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ).