الصوم وأثره في تهذيب النفس

دة : وداد العيدوني

عضو المجلس العلمي بطنجة

بسم الله الرحمان الرحيم

الحمد لله و الصلاة و السلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

الصوم وأثره في تهذيب النغس

كلما أهل علينا شهر رمضان ، أعادنا إلى ظلال وارفة من السعادة والطمأنينة في أجواء مفعمة بالروحانية وبعبق الإيمان ، صياما وقياما ، وإحسانا ، وتقربا إلى الحق سبحانه بشتى أنواع القربات .

إن القيام بكل شروط الصيام الحق من فرائض ، وسنن ، ومستحبات على النحو المطلوب شرعا ، يؤدي إلى نتائج تربوية في غاية الأهمية والإيجابية تظهر آثارها وفضائلها وثمراتها عل العبد ظاهرا وباطنا ، حسا ومعنى ، في الدنيا والآخرة ، وهي المعبر عنها بالتقوى في قوله تعالى في سورة البقرة : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) .

فالغاية من الصوم هي : تحقيق تقوى الله بدليل نداء التشريف الذي استهلت به الآية الكريمة ( يأيها الذين آمنوا ) على أساس أن الإيمان منبع الخير ، ومورد القيم و الفضائل التي يقصد بها تحقق التقوى . وهذا ما يدل على أن المراد من الصوم : تجاوز الإمساك إلى كل ما ينافي الإيمان و يتعارض و فضيلة التقوى على اعتبار أن الأعمال الظاهرة لا يحصل بها التقوى و إنما تحصل بما يقع في القلب من عظمة الله تعالى و خشيته و مراقبته 1.

و فسر الإمام القرطبي قوله تعالى : ( لعلكم تتقون ) بمعنى : لعلكم تضعفون ، فإنه كلما قل الأكل ضعفت الشهوة . وكلما ضعفت الشهوة قلت المعاصي 2.

فالتقوى الجامعة هي اجتناب كل ما فيه ضرر لأمر الدين والدنيا. وتقوى الله في مدلولها العام ترجع إلى اتقاء الإنسان كل ما يضره في نفسه وفي أسرته وفي مجتمعه، وما يحول بينه وبين المقاصد الإنسانية في الدنيا والآخرة، فالتقوى إذن هي العاصم الذي ينبثق من خلال الصوم3.

أما آثار الصوم الدنيوية فتتجلى بشكل واضح في النفس البشرية، وفي الجانب الاجتماعي وفي قواعد السلوك والأخلاق.

فتأثير الصوم في النفس واضح في تربيتها و تزكيتها ، وتطهيرها من أدران العادات ، يتجسد ذلك في أمرين هامين :

أولهما : هو مظهر الرياضة على الصبر في مواجهة الحياة. ولذا سمـي رمضان : شهر الصبر،ومقام الصبر مقام شريف عند العارفين قال حجة الإسلام عن الصبر : “هو عبارة عن ثبات باعث الدين الذي هو في مقابلة باعث الشهوة، وثبات باعث الدين حال تثمرها المعرفة بعداوة الشهوات ومضاداتها لأسباب السعادات في الدنيا والآخرة، فإذا قوي ثبات باعث الدين أثمر ترك الأفعال المشتهيات4 ، وقال بعض السلف : الصوم نصف الصبر، ومن تمام الصوم وكماله صبر النفس5

أما المظهر الثاني : فيأخذ صورة المراقبة العامة ، وكشف الحساب مع الذات خلال هذا الشهر المبارك. فإيمان المسلم بالله ، وأنه يعلم السر منه والعلانية يمثل رقابة عملية لا يحتاج معها إلى رقابة المخلوقين.

فيصبح الإنسان الصائم قوي الروح والإرادة من الحق سبحانه، مستجاب الدعاء، وذلك ثابت بصحاح السنن النبوية . قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ” ثلاثة لا ترد دعوتهم : الإمام العادل ، والصائم حين يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الله تعالى : (وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين) ” 6. فالصوم إذن يقوي إرادة المؤمن ، وسبب قوة الإرادة أمور ثلاثة :

أولها : أن أعظم مكاسب المسلم من أدائه فريضة الصوم على الوجه الأكمل هو تحليه بأشرف صفة للإنسان وهي صفة الأمانة . فصفة الأمانة ، صفة يحرص الإسلام كل الحرص على أن يغرسها في نفس المسلم حتى تصبح عادة وتتكون عنده ملكة المراقبة لله تعالى ، تلك المراقبة التي تجعل نفس المسلم لوامة تلومه على أية مخالفة، وتدفعه إلى عمل الخير دائما.

وثانيها: قلة الأكـل، فالصوم بالإضافة إلى كونه عبادة يتقرب بها إلى الحق سبحانه ، يعد إلى جانب ذلك وسيلة ناجعة للشفاء من أمراض و علل كثيرة حددها الأطباء . وقال حجة الإسلام الغـزالي في كتابه : “معارج القدس” : “ومن فوائد قلة الأكل، كسر الشهوة الداعية إلى المعاصي، والاستيلاء على النفس الأمارة بالسوء 7. ثم يعدد الغزالي مجموعة من فوائد قلة الأكل الصحية و التي منها :دفع النوم ، ودوام السهر ، وتيسر المواظبة على العبادة .

وهكذا، إذا حرر المسلم إرادته، وتعود الصبر والامتناع عن الطعام والشراب ونحوهما في المباحات من أجل الله تعالى، فهو حري أن يتحكم في إرادته – في كل زمان ومكان.

وثالثها : مجاهدة النفس ومقاومة أهوائها وشهواتها . ولنا في أنبياء الله أسوة حسنة نقتدي بها.  قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى في تعليقاته على الرسالة القشيرية: “إن نجاة النفس أن يخالف العبدُ هواها ، ويحملها على ما طلب منها ربها “. 

و من آثار الصوم مجاهدة النفس وتهذيبها، وقد عد رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاد النفس أعظم من جهاد العدو، وعرف أحد العارفين المجاهدة بأنها: ” فطم النفس وحملها على خلاف هواها في عموم الأوقات ، فهي بضاعة العُبَّاد ورأس مال الزهاد ، ومدار صلاح النفوس وتذليلها ، وملاك تقوية الأرواح وتصفيتها ووصولها إلى حضرة ذي الجلال والإكرام ..”.

وأوضح ما تكون هذه المجاهدة في شهر رمضان، حيث يراقب الإنسان غرائزه ولسانه وجوارحه .و في ذلك غاية مثلى هي صلاح القلب وتصفيته من الصفات المذمومة وتحقيق التوازن المطلوب بين حقوق الروح و حقوق الجسد .

إن هذه المجاهدة التي يؤديها المسلم لها آثار جليلة و ثمرات يانعة في طريق المؤمن إلى الحق سبحانه إذ تصفو نفسه بهذا المحك الحقيقي لامتحان إرادته ، ومجهادة النفس بطبيعة الحال إذا كانت مبنية على حب الله تعالى وحب طاعته وحب رسوله – صلى الله عليه وسلم كانت النفس صافية من الإذلال والإكراه والقسر، وقائمة على المحبة والطاعة استحقاقا للمحبوب وطلبا لرضاه وقربه.

1شرح النووي على صحيح مسلم : 16 / 121 .

2تفسير القرطبي 2 / 275 .

3انظر شعب الإيمان للبيهقي3/287.

4 ـ إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي، 4/5-6

5عدة الصابرين لمحمد بن أبي بكر أيوب الزرعي 1/91.

6أخرجه ابن خزيمة في صحيحه 3/199ح 1901 – وابن حبان في صحيحه 8/215ح 3428 والترمذي في السنن 4/672 ح 2526.

7معارج القدس 1/81.