تعظيم الحرمات وفضل شهر ذي القعدة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين ورضي الله عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،
أما بعد :
فإن من مبادئ ديننا الحنيف : تعظيم الحرمات ، ووجوب المحافظة عليها . قال تعالى : ﴿ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه﴾ (الحج : 30). والحرمات هنا تعني على القول المشهور : ما يجب احترامه وحفظه ، من : الحقوق ، والأشخاص ، والأزمنة ، والأماكن .
وتعظيمها : توفيتها حقها ، وحفظها من الإضاعة والتفريط والتهاون .
وإن أي انتهاك لحرمة من الحرمات ،أو التفريط فيها كبيرة وجريمة وعدوان ، هو من الفساد في الأرض . قال تعالى : ﴿ولا تفسدوا في الارض بعد إصلاحها ﴾ (الأعراف : 56) .
أي لا تفسدوا في الأرض بالشرك، واقتراف الذنب ، والاعتداء على النفس بغير حق بعد إصلاحها ببعثة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام .الذين كان الأمر بالإصلاح والحث عليه ، والنهي عن الإفساد والتحذير منه ، من أهم ما ورد في وصاياهم لقومهم وأتباعهم ، ففي وصية صالح لقومه ثمود نجد في القرآن الكريم : ﴿فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين ﴾ (الأعراف : 74 ) وفي وصية شعيب لقومه مدين نجد :﴿ فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ، ولا تفسدوا في الارض بعد إصلاحها﴾ (الأعراف : 85).
الإخوة والأخوات :
بين الحق سبحانه وتعالى في كتابه العزيز أن من علامات صلاح القلوب واستقامتها تعظيم تلك الشعائر، قال تعالى: ﴿ ذالك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب﴾(الحج:32 ).
وشعائر الله هي : أعلام دينه الظاهرة التي أمر بتعظيمها، ومن أخصها: أركان الإسلام ، وتعظيمها يكون : بإجلالها بالقلب ومحبتها، وتكميل العبودية فيها غير متهاون، ولا متكاسل، ولا متثاقل.
لقد خاب وخسر من لم يعظم شعائر الله، وانتهك حرماته، قال تعالى: ﴿إن الذين كفروا ،ويصدون عن سبيل الله ، والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء الكاف فيه والباد ، ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب اليم ﴾ (الحج:25).
الإخوة والأخوات :
إن سعادة الأمة ، وعزتها، أمر مرهون بمدى تعظيمها لحرمات الدين ،والدفاع عن ثوابتها ، ومقدساتها . واستنهاض الهمم في هذا السبيل إنما يكون بتذكار هديه صلى الله عليه وسلم ،وهدي اصحابه في شؤون الدنيا والدين ، لنتأسى بهم في ذلك حتى نسعد سعادة طيبة.
يقول سيدنا عمر بن عبد العزيز رصي الله عنه :” سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سنناً، الأخذ بها تصديق بكتاب الله ، واستعمال لطاعة الله، وقوة على دين الله ، ليس لأحد تغييرها ، ولا تبديلها ، ولا النظر في رأي من خالفها ، من اقتدى بها فهو مهتد ، ومن انتصر بها فهو منصور ، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً ” (الشفا بتعريف حقوق المصطفى، 2/9.)
الإخوة والأخوات :
إن من حكمته سبحانه وتعالى ، وتقديره لعباده أن عظّم لهم مواسم ، تضاعف فيها الحسنات ، كما تضاعف فيها السيئات، فلا يستوي فيها من عمل صالحا مع من عمل صالحا في غيرها، ولا يستوي فيها عمل السيئات مع عملها في غيرها، فلها من المزايا في هذا الباب ما لا يقارن بسواها، حيث عظم الله تعالى شأنها ، وعظم الحرمات والشعائر فيها.
ومن هذه المواسم :الأشهر الحرم، التي هي : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، وهي ثلاث متواليات وواحد فرد، وقد حرم الله تعالى فيها القتال ، وعظم من ظلم النفس فيها بأي وسيلة كانت ، فقال سبحانه: ﴿ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله ، يوم خلق السموات والأرض ، منها أربعة حرم ، ذلك الدين القيم ، فلا تظلموا فيهن أنفسكم ﴾ (التوبة: 36).
وعن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته، فقال:” ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهراً ، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر بين جمادى وشعبان”متفق عليه .
والمعنى : أن الزمان دار على الترتيب الذي اختاره الله تعالى ، ووضعه يوم خلق السماوات والأرض ، وهو أن يكون كل عام اثني عشر شهرا ، وكل شهر ما بين تسعة وعشرين إلى ثلاثين يوما ، وقد كان العرب الجاهليون قبل الإسلام يعظمون الأشهر الحرم فيما يظهر للناس، ولكنهم يتلاعبون بها وفق أهوائهم، فإذا أرادوا قتالا ، أو إغارة على قبيلة من القبائل أحلوا أحدها عاما ، وحرموه عاما ، ليكملوا عدتها أربعة أشهر، يرون بذلك عملهم حسنا، ولكنه تزيين الشيطان لهم في تحريم ما أحل الله ، وتحليل ما حرم سبحانه وتعالى.
فأبطل الله تعالى ذلك ، وقرره على مداره الأصلي ، فالسنة التي حج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع هي السنة التي وصل ذو الحجة إلى موضعه فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
” إن الزمان قد استدار” يعني أمر الله تعالى أن يكون ذو الحجة في هذا الوقت فاحفظوه، واجعلوا الحج في هذا الوقت ، ولا تبدلوا شهرا بشهر كعادة أهل الجاهلية .
الإخوة والأخوات :
خص الله تعالى الأشهر الحرم بالذكر ،ونهى عن الظلم فيها تشريفا لها ، وإن كان منهيا عنه في كل زمان . قال : ﴿فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ﴾ (البقرة : 197).
والمقرر عند أهل العلم : أن الحسنات تضاعف والسيئات تعظم . باعتبار شرف الزمان والمكان والفاعل . روى ابن جرير بإسناده عن ابن عباس – رضي الله عنهما – في شأن تعظيم الله لحرمة هذه الأشهر الحرم قوله: “جعلهن حراما، وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم ” جامع البيان في تفسير القرآن : 6/366 )
وعن قتادة رحمه الله قال : “إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا من الظلم في سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيما، ولكن الله يعظم في أمره ما يشاء”. (تفسير ابن كثير : 2/340)
الإخوة والأخوات :
يستحب الإكثار في هذه الأشهر ، ومنها شهرنا هذا ( شهر ذي القعدة ) من الطاعات ، والقربات .فعن رجل من باهلة، أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللّه، أنا الرجل الذي جئتك عام الأول، فقال: “فما غيرك، وقد كنت حسن الهيئة ؟” قال: ما أكلت طعاما إلا بليل، منذ فارقتك. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. “لم عذبت نفسك !”. ثم قال: “صم شهر الصبر، ويوما من كل شهر”. قال: زدني؛ فإن بي قوة. قال: “صم يومين”. قال: زدني. قال: “صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك”. وقال بأصابعه الثلاثة، فضمها، ثم أرسلها” . رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه .
واعلموا رحمكم الله :
أن لشهر ذي القعدة فضائل عديدة ،كما أنه شهد أحداثا دينية وتاريخية كتب الله فيها النصر للمسلمين ، وغير بعضها وجه التاريخ، لذا فهو يحتل مكانة عظيمة عند المسلمين بين الاشهر العربية.
-هو الشهر الذي يسبق الحج .
-وهو أول الأشهر الحرم المذكورة في القرآن الكريم.
-وأن عمر النبي صلى الله عليه وسلم كلها كانت في ذي القعدة ، سوى عمرته التي قرنها بحجته .
-وقيل فيه :إنه الثلاثون يوماً الذي واعد الله فيها موسى عليه السلام ؛ قال ليث عن مجاهد في قوله تعالى﴿وواعدنا موسى ثلاثين ليلة﴾ (الأعراف : 142). قال : ذو القعدة. ﴿وأتممناها بعشر﴾ (الأعراف : 142) . قال : عشر ذي الحجة .
-وقد روي عن طائفة من السلف؛ منهم ابن عمر وعائشة وعطاء، تفضيل عمرة ذي القعدة وشوال على عمرة رمضان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في ذي القعدة، وفي أشهر الحج حيث يجب عليه الهدي إذا حج من عامه؛ لأن الهدي زيادة نسك، فيجتمع نسك العمرة مع نسك الهدي .
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد
وارض اللهم عن الصحابة الكرام البررة الأخيار ذوي القدر العلي والفخر الجلي سادتنا أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن باقي العشرة المبشرين وعن سائر الصحابة أجمعين خصوصاً منهم الأنصار والمهاجرين.
اللهم تقبل منا واعف عنا واغفر لنا وتجاوز عن سيئاتنا يا كريم يا رحمن يا رحيم.
اللهم انصر مولانا أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس ، ووفقه إلى ما تحبه وترضاه ، وارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه ،اللهم أدم على جلالته نعمة الصحة والعافية, ومتعه بالسعادة الدائمة ،وكلل سائر أعماله وجهوده المتواصلة بالمزيد من التوفيق والنجاح. وأبقه حصنا حصينا لهذا الدين .
وبارك في ولي عهده وأنبته نباتاً حسنا واجعله من عبادك الصالحين وفي سائر أفراد أسرته الكريمة .
اللهم احفظ بلدنا من كل شر ومن كل سوء .
اللهم ادفع البلاء ، وارفع الوباء
آمين والحمد لله رب العالمين .