في ذكرى مولد نبي الهدى صلى الله عليه وسلم

د. محمد كنون الحسني
في ذكرى مولد نبي الهدى صلى الله عليه وسلم

إن الله جلت نعماؤه لما أراد إنقاذ الأمة من الضلال وإرشادهم إلى معرفة الحرام والحلال، وهدايتهم إلى الدين الذي ارتضاه لمن أسعده وصرف عنه من شقاه، اختار سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم لإيضاح سبله وجعله خاتم أنبيائه ورسله، فاصطفاه من أكرم الخليقة وجعله روح الوجود على الحقيقة، ومازال ينقله في أشرف الأصلاب وأعظمها إلى أشرف البطون وأكرمها حتى تزوج عبد الله بن عبد المطلب بأمه وأظهره الله تعالى ظهور البدر، ومن على هذه الأمة بهذه النعمة، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وليضع عنهم إصرهم وأغلالهم التي كانت عليهم ، وليشيد لهم مدنية سامية يتفيئون ظلالها ويرتقون بها ذروة المجد والسؤدد ما استمسكوا بهذه المدنية الإسلامية الصالحة لكل عصر ومصر، فقد أبرزه الحق سبحانه وتعالى إلى الوجود في شهرنا هذا ربيع الأول، ففيه فاضت على الكون بركاته، وفيه كان مولده ومبعثه ووفاته، ولد مختونا مسرورا فأصبح الكون به مسرورا، وظهرت الآيات الكبرى وكثرت الهواتف بالبشرى، روي أن الصحابة رضوان الله عليهم قالوا يارسول الله أخبرنا عن نفسك؟ فقال: أنا دعوة أبي إبراهيم، يعني في قوله (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ، وبشارة أخي عيسى، يعنى قوله: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) ، ولما ولدت خرج من أمي نور أضاء مابين المشرق والمغرب، وفي رواية أضاءت منه قصور الشام.
وقد توفي والده وهو حمل لم يتجاوز ثلاثة شهور، فكفله جده عبد المطلب، وأول من أرضعته أمه آمنة بنت وهب ثلاثة أيام ثم ثويبة مولاة عمه أبي لهب عدة أيام، ثم عهد به جده إلى حليمة السعدية وجعله في قبيلتها بالبادية لينشأ شجاعا لايعرف الجبن، حرا لايخضع للذل، صريحا لايعرف النفاق، كدوحا يكره الخمول والكسل، صدوقا لا يمسه الكذب، كريما يمقت البخل، أمينا يبغض الخيانة، فكان ذلك حتى شب وترعرع ثم ردته حليمة إلى أمه فحضنته إلى أن توفيت وقد بلغ من العمر ست سنين، وبعد وفاة أمه بسنتين توفي جده عبد المطلب فكفله عمه أبو طالب وحاطه بعنايته، وكثيرا ما حماه من إذاية قريش، وقد سافر مع مع عمه أبي طالب إلى الشام في تجارة وعمره اثنى عشرة سنة، فرآه بحيرا الراهب ولمح بين كتفيه خاتم النبوءة فبشر به عمه أبو طالب وحذره من اليهود عليه، ثم سافر إلى الشام مرة أخرى يتاجر بمال السيدة خديجة بنت خويلد، ولما رأت تجارتها قد نمت وزادت على يديه، وقد أعلمها خادمها ميسرة بسمو أخلاقه رغبت في التزوج به وخطبت وده على يد أعمامه فتم لها ما أرادت وكان عمره صلى الله عليه وسلم حين بنى بها خمسا وعشرين سنة، ولما بلغ صلى الله عليه وسلم سن الأربعين بعثه الله رحمة للعالمين وأرسله للناس كافة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وأنزل عليه كتابا قرآنا عربيا غير ذي عوج يهدي للتي هي أقوم، وهو الهداية العامة التي غيرت وجه التاريخ وأتت بأعظم انقلاب على وجه الأرض وأكبر إصلاح شامل لمناحي الحياة، فبدأ بأهله وعشيرته، ثم جعل ينشر دعوته شيئا فشيئا بين قومه، ويصدع بكلمة الحق ويدعو إلى الهدى ويدل على الفلاح، ويرشد إلى عبادة رب الأنام وترك ما عكفوا عليه من الأوثان والأصنام، وقد أيده الله سبحانه وتعالى بالآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة الدالة على صدقه، ولاقى في سبيل الدعوة إلى الله من الصعاب والشدائد ما شاء الله أن يلاقي، ثم هاجر إلى المدينة فرارا بدينه، وإلى حيث الأنصار حلفاؤه، يؤيدونه ويشدون أزره، وبعد أن بنى مسجد قباء ثم مسجده بالمدينة مع الصحابة شرع يعقد المواخاة بين كل اثنين من المهاجرين والأنصار للأمن على نفسه من الداخل وليتفرغ إلى الخارج، ثم أذن الله له قتال كفار قريش جزاء ابتدائهم إياه له بالعدوان وإخراجه من داره بغير حق، إلا أن يقول ربي الله، فنصره الله عليهم، ثم كانت غزواة انتشر بعدها الإسلام ودخل الناس في دين الله أفرادا وجماعات، وكون المصطفى عليه السلام ممن آمن به ودخلوا في دين الله جبهة قوية ربطها برباط الأخوة العام، وجعل من الأمة العربية الجاهلية المتعادية المتخاذلة أمة إسلامية عظيمة متحدة عزيزة الجانب قوية الشكيمة فتح بها من البلدان والأمصار ما لم تفتحه الرومان في ثمانية قرون، حتى امتد الإسلام شرقا وغربا وسارت كلمة التوحيد تشق طريقها إلى القلوب وتجدب إليها النفوس وذلك أثر الإخلاص لله تعالى والتضحية في نصرة دينه، والأخذ بالعدالة في معاملة الأفراد والأمم، فانجذب الناس إلى الإسلام حين رأوا دينا يجدد عهد الفضيلة ويستأصل شافة الفوضى الاجتماعية ويجتث شجرة الوثنية، ويحرر العقل من ربقة التقليد، والنفس من الكبر والتجبر ويقرر المساواة والعدل ويهدم الفوارق، ويحمي العقيدة من سلطان الأوهام والخرافات، ويصافح العلم ولا يخالف حكم العقل السليم، ويأخذ بالرفق والتسامح وحسن المعاملة، ويشرع أحكاما عادلة بنيت على مصالح العباد واتسعت لحاجات البشر، وتأسست على الاتحاد والتعاون.

فهذا هو النبي المؤيد بالقرآن الكريم كلام الله وحجته على خلقه، والرسول الذي ظلله الغمام، ونبع من بين أصابعه الماء، وأظهره الله غاية الإظهار، وأودعه ما أودعه من المعارف والأسرار، ونشر دينه في جميع الأقطار، وخصه بالمقام المحمود والحوض المورود والشفاعة العظمى، قال تعالى: ( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَك وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) ،وقال أيضا:( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا) ، روي عن كعب الأحبار أنه قال: نجد مكتوبا يعني في التوراة : محمد رسول الله عبد مختار لافظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفوا ويغفر، أمته الحمادون يكبرون الله في كل نجد ويحمدونه في كل منزل، رعاة للشمس، يصلون الصلاة إذا جاء وقتها، يأتزرون على أنصافهم ويتوضؤون على أطرافهم، مناديهم ينادي في السماء، صفهم في القتال وصفهم في الصلاة سواء، لهم دوي في الليل كدوي النحل، مولده بمكة ومهاجرته بطابة، وملكه بالشام.

فبشرى لنا معشر الإسلام فكم من عناية لنا بحرمة سيد الأنام، فقد جعله الله لنا ملاذا وكنزا وذخرا، ورحمنا به في الدنيا ويرحمنا به في الآخرة، ففي الحديث: “إذا عصف الصراط بأمتي نادوا وا محمداه وامحمداه، فأبادر من شدة إشفاقي عليهم وجبريل آخد بحجزتي، فأنادي رافعا صوتي: رب أمتي لاأسألك اليوم نفسي ولا فاطمة ابنتي”، وفي صحيح مسلم عن ابن عمر قال: ” تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قول إبراهيم فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم، وقول عيسى إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم، فرفع يديه وقال: أمتي أمتي، ثم بكى فقال الله ياجبريل إذهب إلى محمد فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك”, وقال عليه السلام: ” قال لي ربي ليلة أسري بي: يامحمد إني مننت عليك بسبع خصال لم أعطها لأحد قبلك ولا بعدك، أولها أني لم أخلق أحدا أعز علي منك ولا من أمتك، والثانية أن جميع الأنبياء مشتاقون إلى لقائك، والثالثة أني لم أطل أعمار أمتك لكي لايطول حسابهم، والرابعة أني أخرتهم إلى آخر الزمان لكي لايطول مكوثهم تحت التراب، والخامسة أني لم أعط أمتك الشدة والقوة ليلا يطغوا كما طغت الأمم الماضية، والسادسة أني لم أواخذهم عند كل ذنب كما فعلت ببني إسرائيل، والسابعة أنهم يقرأون عيوب الأمم الماضية ولا أحد بعدهم يقرأ عيوبهم.