السيرة النبوية: دروس وعبر – 4 –

السيرة النبوية: دروس وعبر – 4 –

السيرة النبوية: دروس وعبر – 4 –

بعد بيعة العقبة الثانية أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يحث المؤمنين على الهجرة إلى يثرب،  فخرج المسلمون  جماعات وفرادى ، وكان من أوائل من هاجروا أبو سلمة بن عبد الأسد مصعب بن عمير، وعبد الله بن أم مكتوم، وبلال بن رباح، وسعد بن أبي وقاص، وعمار بن ياسر، وعمر بن الخطاب في عشرين من الصحابة، ثم تبعهم كبار الصحابة وصغارهم ، ولم يبق بمكة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي بن أبي طالب، وأبي بكر الصديق، ومن حبس كرهاً.‏‏

ولما علمت قريش بقرار النبي صلى الله عليه وسلم اعتزمت قتله ، قال الله عز وجل: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك. ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين) ، ولكن قريشاً فشلت في عزمها، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب بالنوم على فراشه والتغطي بغطائه، ثم خرج صلى الله عليه وسلم من بينهم – أي من بين الكفار الذين اجتمعوا ببابه وعلى رأسهم أبو جهل – سالماً بإذن الله .‏

وكان صلى الله عليه وسلم قد رتب للهجرة مع أبي بكر، وأعدّا لها عدتها ووضعا لها خطتها، وانطلقا معا إلى غار ثور. وكان أبو بكر قد علف راحلتين كانتا عنده أربعة أشهر، ودفع بهما إلى الدليل – عبد الله بن أريقط- وكان على دين الكفار، وواعده غار ثور بعد ثلاث ليال بالراحلتين، وأما أسماء بنت أبي بكر  فقد كانت تأتيهما بالطعام، وكان عبد الله بن أبي بكر يبيت عندهما ويعود قبيل الصبح، فيصبح مع قريش بمكة كبائت فيها، فيتسمع لهما الأخبار، وأما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر فكان يرعى غنماً يريحها عليهما ساعة من العشاء، فيأخذان منها حـاجتهما من اللبن.

ثم‏ انطلق الركب المبارك، رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر والدليل وعامر بن فهيرة، فأخذوا طريق الساحل ، وكانت قريش قد رصدت جائزة لمن يدل على محمد أو يأتي به، فلحقهم سراقة بن مالك بن جُعشم، طمعاً في الجائزة فلما قرب منهم عثرت فرسه، ثم ساخت يداها في الأرض حتى بلغتا الركبتين، ورأى غباراً ساطعاً إلى السماء مثل الدخان، فنادى بالأمان، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أخف عنّا، وكتب له كتاباً بالأمان. ولقيا الزبير بن العوام قافلاً من تجارة بالشام فكساهما الزبير ثياب بياض.‏

وفي هذه الفترة  كان المسلمون بالمدينة يغدون كل غداة إلى الحرّة، ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يردّهم حرّ الظهيرة، فرآه يهودي فقال بأعلى صوته: يا معاشر العرب هذا جدّكم الذي تنتظرون، فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا حدث ولا حرج عن فرح أهل المدينة بمقدم إمام المرسلين وخاتم النبيئين سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه الذين أرشدونا إلى التضحية بأنفسنا وأموالنا في سبيل الحق والذود عن العقيدة وعلمونا كيف يكون الصبر على الأذى وكيف يكون التوكل على الله والثقة به مع الأخذ بالأسباب.

كان وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، ولبث في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي أُسس على التقوى – مسجد قباء – وصلّى فيه، ثم ركب راحلته، فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقل: هذا إن شاء الله المنزل، ثم بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجداً.

وهكذا نجد أن الهجرة  تمثل تحولاً ضخماً لإقامة مجتمع جديد في بلد آمن، وهنا تتمثل أهمية التأريخ للإسلام بالهجرة ذلك الحدث العظيم. ‏

ولقد واجهت الرسول صلى الله عليه وسلم بعد هجرته وفي بداية إقامته بالمدينة عدة قضايا منها: ‏

  • مواجهة دسائس ومؤامرات اليهود وعتّوهم وفسادهم وعداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين.
  • دعوة مشركي المدينة إلى الإسلام، وإيجاد صيغة للتعايش معهم حتى يدخلوا في الإسلام ويكفّوا أيديهم عن الكيد للمسلمين.
  • تكوين مجتمع إسلامي بالمدينة يمثل الدعوة الإٍسلامية ويتكامل فيه التشريع والتقنين والتربية، وتنهض فيه الحضارة والعمران والاقتصاد والسياسة ومسائل السلم والحرب.
  • الإعداد والتجهيز للقوى المناوئة للإسلام خارج المدينة وعلى رأسها قريش.

وبعد بناء المسجد ‎‎عمل الرسول صلى الله عليه وسلم على المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، يقول ابن القيم: ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك، وكانوا تسعين رجلاً، نصفهم من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار، آخى بينهم على المساواة، ويتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام، إلى حين وقعة بدر، فلما أنزل الله عزّ وجلّ (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) رد التوارث، وبقي عقد الأخوة. ‏

وكان لابد – لتأمين سلامة المجتمع الجديد – من تنظيم العلاقة بغير المسلمين في هذا المجتمع، لهذا أقام صلى الله عليه وسلم معاهدة مع يهود المدينة من بنودها: ‏

  • إن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، وكذلك لغير بني عوف من اليهود.
  • على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم.
  • بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.
  • بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم.
  • ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو شجار يخاف فساده، فإن مردّه إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
  • بينهم النصر على من حاربهم وعليهم الدفاع عن المدينة ورد كل من أراد بها وبأهلها مكروها.

وبهذا قامت دولة المدينة الإسلامية الراشدة تحت قيادة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم على أسس سليمة مكنت المسلمين من الاستقرار والعمل. ‏