
نظرة الإسلام للبيئة للدكتور محمد كنون الحسني
نظرة الإسلام للبيئة للدكتور محمد كنون الحسني
نظرة الإسلام للبيئة
يقول الله عز وجل: (أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) المائدة :3 فان إعلان رب العالمين اكتمال الإسلام دينا يهدي البشرية إلى سبل الهدى والرحمة، ومنهاجا ينظم حياة الإنسان وفق مبادئ الخير والنفع والإصلاح؛ لا يستغرب معه عنايته الفائقة بالبيئة والمجال الطبيعي الذي جعله الله بيتا يحيى فيه الإنسان ومحرابا يعبد فيه ربه؛ فقد قال سبحانه وتعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) الأنعام:38
من هنا يتجلى أن نظرة الإسلام للكون والإنسان والحياة، منبثقة من هذه النظرة الربانية المتكاملة والشاملة لجميع مناحي الحياة، والمؤطرة لمنهجه في هداية الخلق وفق مقاصده في درء الفساد وإرساء أسس الإصلاح ومقوماته؛ وذلك استنادا إلى ثلاثة مبادئ أساسية مؤطرة ومنظمة لعلاقة الإنسان بالبيئة، وهي: الاستخلاف، والتسخير، والإعمار.
أخي المؤمن اعلم أن الله تعالى قد استخلفك في أرضه، وحذرك من إفسادها وإتلافها أو العبث بمقدراتها، كما يفهم من قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) البقرة: 30 وهذا الاستخلاف أمانة تترتب عليها مسؤولية؛ فإن الله تعالى سائلك يوم القيامة عن هذه الأمانة أحفظت أم ضيعت؛ فهو سبحانه وتعالى حسيبك ورقيبك، مصداقا لقوله تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُون) يونس:14 ولقد أكد هذا المعنى الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: “إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون…” فعملك أخي المؤمن وتصرفك نحو بيئتك، وفق هواك أو على منهج الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، هو موضوع المحاسبة وجواب المساءلة يوم القيامة؛ فقد شرح الإمام النووي (مستخلفكم فيها) بقوله: “جاعلكم خلفاء من بعد القرون الذين قبلكم، فينظر هل تعملون بطاعته، أم بمعصيته وشهواتكم”.
وبقد ما سخر الله لك أيها الإنسان ما في الأرض جميعا لخدمتك، ولتمشي في مناكبها وتأكل من رزقها؛ وألصق شيء بمعيشك اليومي، والذي تطلب في يومه معاشك، وفي ليله سكينتك، هو هذه الدائرة الصغيرة التي نسميها اليوم “البيئة”. فقد سخر الله للخلق هذه البيئة وكل ما تزخر يه من النعم والفضائل يقول الله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) إبراهيم:33-34 فلقد سخر الله تعالى لكم السماوات والأرض، والجبال، والبحار والأنهار، والرياح والدواب والأنعام لتشكروه على ما أفاء عليكم من نعمه، وتسبحوه بكرة وأصيلا لتحقيق عبوديتكم لرب العالمين، وتستكملوا إنسانيتكم بتحقيق توحيده سبحانه.
إن الله خلق السماوات والأرض وأحكم صنعها، وهو غني عنها، وخلق الإنسان واستخلفه في أرضه وسخر له ما فيها لغاية سامية وهي عبادة ربه في الأرض –وإن كان سبحانه مستغن عن تلك العباد- والتي لا تكتمل إلا بعمارة الأرض وتوفير وسائل ازدهارها ونمائها بما ينفع الناس وليس بما يضرهم، وبما لا يؤثر سلبا في بيئته. يقول الله تعالى:(هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) هود:61 وهذه الآية تؤكد على هذا المقصد السامي من خلق الإنسان واستخلافه في الأرض حيث طالبه الله تعالى بعمارة الأرض – فالسين والتاء في اللغة تفيدان الطلب- فمن قصر في الإسهام في تنمية بيئته فقد قصر في الوفاء بأمر ربه، ومن أفسد بيئته فقد عصى ربه وخالف أمره. اللهم إنا نحسن الظن بك ونرجوا رحمتك، فأدخلنا فسيح جناتك، ونخاف عذابك، فنجنا من النار وما يقرب إليها من قول وعمل، وأنعم علينا برضوانك ورحمتك، بفضلك وكرمك، آمين والحمد لله رب العالمين.
إن الله لما استخلف عباده في أرضه واستعمرهم وسخر لهم ما فيها كلفهم بعبادته؛ وما كان لعاقل أن يقصر هذه الغاية الوحيدة والأساسية في المفهوم الضيق للعبادة والذي يحصره بعض الناس في القيام بالشعائر التعبدية التي افترضها الله تعال على عباده؛ من صلاة وزكاة وصيام وحج؛ خاصة وأن الله مستغن عن عباده وعباداتهم، كما أن تنطق بحقيقة جوهرية مفادها أن هذه الشعائر إنما جعلت لتحسين أخلاق المؤمنين وتزكية نفوهم وتطهيرها من كل مظاهر الفساد والإفساد؛ حيث نجد في قوله تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (العنكبوت 45) وقوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (التوبة 103)، وهكذا فإن معنى العبادة أعم وأشمل لكل مناحي الحياة، بل إنه ناظم لحركة الإنسان الظاهرة في المجتمع، فكل ما يمكن أن يفعله الإنسان بهذا المعنى – إن كان خاصا لله- عبادة يثاب عليها، وعمل يرجو ثوابه عند الله. ومن ثم أخي المؤمن فإن الرفق بالبيئة وعدم تلويثها أو إفساد أي جزء منها، طاعة لله وفيه مرضاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
كيف لا أخي المؤمن وقد جعل الله هذه البيئة آية من آياته سبحانه الدالة على عظيم قدرته وجمال خلقه: (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. (الجاثية 3-5) فإن في بيئتك أخي المؤمن آيات تشهد على وجود الله، وتعزز إيمانك به، إنها دلائل قائمة ترشدك إلى الله؛ كما فعل الله سبحانه لمّا بعث إليك الأنبياء والمرسلين ليدلوك على الله ويرشدوك إلى الخير. ألم تر أن الله تعالى قد أشفع في هذه السورة ذكر الآيات الكونية من كتابه المنظور بآيات أخرى من كتابه المسطور فقال سبحانه: (تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ) (الجاثية: 3) ومن هنا أخي المؤمن فإنك حينما تسهم في تنمية بيئتك فإنك تحمي آيات الله عز وجل، وحينما يفضي سوء فعالك، وقبيح تصرفاتك إلى تدمير بيئتك فإنك تدمر الآيات الدالة على ربك المعرفة بعظيم قدرته، والمذكرة بعميم نعمه.
لهذا فعلم أخي المؤمن أنه في كل مرة يؤدي فيها سلوكك إلى اندثار نبات أو انقراض حيوان، تكون قد أسهمت في طمس آية دالة على عظمة الله وجمال خلقه، كما أنك تكون سببا مباشرة في القضاء على مخلوق آمن مطمئن ذاكر لله مسبح له سبحان آناء الليل وأطراف النهار؛ ألم تسمع قوله الله تعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) الإسراء:44.