المصلحة العامة والمصالح الخاصة للدكتور محمد كنون الحسني

المصلحة العامة والمصالح الخاصة للدكتور محمد كنون الحسني

المصلحة العامة والمصالح الخاصة

إن من قواعد ديننا الإسلامي الحنيف، ومن أسسه العظيمة المتينة قاعدة: “جلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها “.  بل إن الشريعة مبنية على المصالح والمفاسد، فكل ما أمر الله به إما أن تكون المصلحة فيه خالصة، وإما راجحة، وكل ما نهى الله عنه إما أن تكون المصلحة فيه خالصة، وإما راجحة، قال ابن القيم- رحمه الله – : (إن الشريعة مبناها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكم إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل).

ولكن مع الأسف الشديد لقد خبط الناس في فهم القواعد التي فيها اعتبار المصالح والمفاسد، وتنزيلها على الواقع خبط عشواء، فأصبح كل شخص وكل قوم يتذرعون بتحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله، أو البحث عن مآربهم الخاصة وقضاء حوائجهم ومصالحهم، بما يسمى “المصلحة ” ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ومن الناس من يريد تغيير المنكر دون نظر إلى المصلحة والمفسدة، بل من الناس من لا يعترف بشيء اسمه مصلحة ومفسدة.

فالمصلحة في اللغة هي كالمنفعة وزناً ومعنىً، وقد قسمها العلماء الأجلاء إلى أقسام عدة، وفقاً لاعتبارات وحيثيات مختلفة، فقسموها باعتبار الفرد والجماعة إلى قسمين: مصلحة عامة، ومصلحة خاصة، وبينوا أنَّه في حال تعارض المصلحة العامة مع الخاصة، أي مصلحة الجماعة والأمة والوطن على مصلحة الأفر اد والجماعات، فإنها تقدم المصلحة العامة، وقعَّدوا لذلك قاعدة هي” المصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة “. ويمثلون للمصلحة العامة بالمقاصد والكليات الخمس وهي: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.

فهذه كليات لا تقوم الحياة إلا بها، ولا تنضبط أمور المجتمعات إلا بحفظها، ولا يمكن ذلك إلا بما أحكم الله عز وجل من شرعه العظيم، وما قرره رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم .

فحفظ الدين من أعظم الأمور، وأجل المقاصد؛ ومما ينبغي أن نجعله في مقدمة الأمور، فقد جاءت الشريعة الغراء بحفظ الدين من وجوه متعددة: أولها : العمل به؛ فإن دين الله عز وجل لا نعلمه لنحفظه فقط، ولا نتعرف على نصوصه وأدلته لنعلم ما فيها من الأسرار أو الأحكام، وإنما للعمل بما دلت عليه، استجابة لأمر الله عز وجل: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(.

وبعد العمل به وإقرار أحكامه تأتي الدعوة إليه، وهي من المهمات والواجبات في حفظ الدين تذكيراً للغافلين، وتعليماً للجاهلين، ودحضاً لشبهات المبطلين، وتحذيراً من شهوات الفاسقين، قال عز وجل: ) وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه  قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان “.

ثم يأتي بعد ذلك حفظ  النفس والعقل والنسل والمال، حفظ النفس من الأضرار والمصائب والأمراض ،وعدم تعريضها للمهالك، وعدم تعذيبها بحملها فوق طاقتها، أو التفريط فيها أو إزهاقها وقتلها عمدا لأننا مسؤولين عنها وعلى حفظها لقوله تعالى: ( ولا تقتلوا النفس  التي حرم الله إلا بالحق)،

ومن الكليات التي يجب الحفاظ عليها العقل ، بصيانته من كل ما يعطل إدراكه ونشاطه من مخدرات ومسكرات ومتلفات له، لأن فساده ضياع  للإنسان  وفساد في دينه ودنيا.

ثم حفظ النسل برعايته وتربيته تربية صالحة، وتعليمه وتوجيهه، فأبناؤنا أمانة في عنقنا نؤديها إن نحن حفظناهم من المهالك وربيناهم على روح الشريعة السمحة، وعلمناهم وأدبناهم، وجعلناهم جيلا صالحا لبناء الأمة وتحمل المسؤولية، ونكون خائنين للأمانة إن نحن أهملناهم وتركناهم عرضة للضياع.

ثم حفظ المال والمراد به كل الموارد الاقتصادية التي تنفع الأمة وتستقيد منها، من فلاحة وصناعة وتجارة وصيد وبناء ..وغيره، فحفظه وتنميته واجبة على الأمة كل من جهته ومسؤوليته، سواء كان عاملا أو حارسا، أو مسؤولا.

 فهذه الكليات دعا الشارع إلى الحفاظ عليها، وأوجب تقديمها على كل مصلحة، في أي وقت وفي أي مكان. 

لقد بنى الإسلام تشريعاته على تأمين المصالح الخاصة والعامة.  فالإسلام يدور مع المصلحة والنفع للعباد فحيثما وجدت المصلحة وجد الإسلام قال تعالى: (وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ) فالحق هو عين المنفعة وعين المصلحة وقد فهم الصحابة هذا المعنى وبنوا عليه رسالتهم ولقد أظهرها ربعي بن عامر رضي الله عنه لرستم مبينا له معالم هذه الرسالة العظيمة وما تقتضيه من حمل المصلحة للعباد (نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة )

وإذا ما تعارضت المصلحة الخاصة مع مصلحة العباد فإن الإسلام يرغب في تقديم المصلحة العامة، إن تغليب المصلحة العامة على الخاصة أمر رغب فيه الإسلام وقد كان هذا هو سلوك الصحابة والتابعين والعلماء والمخلصين من هذه الأمة، ولولا تغليبهم للمصلحة العامة ما ألفوا مؤلفاتهم ولا سهروا الليالي ولا أمضوا حياتهم كلها جهادا وحركة لنشر الدعوة والقيم والمبادىء والأخلاق ولما كان أغلبهم يموت ويدفن خارج أرضه ووطنه بعيداً عن أزواجهم وذرياتهم وما كان ذلك كله إلا من أجل مصلحة العباد.

والتشريع الإسلامي لا يرمي إلا إلى صلاح الفرد والمجتمع وإذا تعارضت مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة قدمت مصلحة الجماعة لأنها المصلحة العامة.  

 أي أنه ينبغي على كل إنسان سواء كان مسئولاّ، رئيسا أو مرؤوسا، موظفا أو عاملا، أن يجعل نصب عينيه تقديم المصلحة العامة على الخاصة، فالإنسان الناجح هو الذي ينمي هذا المفهوم في تصرفاته وفيمن يعملون معه فيحرص على تلبية احتياجات العمل و مصلحة البلاد وقضاء مصالح الناس حيث يقدمها على مصالحه الخاصة، فلا يقوم بأعماله الشخصية أثناء العمل الرسمي ولا يستخدم إمكانات العمل في الأمور الخاصة والرغبات الذاتية، بحيث يستطيع تحقيق نوع من التوازن بين المصلحتين بحيث يسعى إلى تحقيق راحة العاملين معه ورضاهم عن العمل في سبيل الإخلاص والتفاني في إنجاز العمل نحو تحقيق الهدف المطلوب وفي نفس الوقت يضع في المقام الأول المصلحة العامة ومتى ما تعارضت المصلحة العامة مع المصلحة الخاصة ،قدمت المصلحة العامة.

 إن المدير الناجح هو من يرجح كفة الصالح العام على حساب الصالح الخاص، وذلك بتواجده باستمرار في موقع عمله وبذل كل جهد ممكن للرفع من دور المؤسسة التي ينتمي إليها في تنمية المجتمع وتحقيق أهدافها ، والحرص على إيثار العاملين لديه المستحقين للإجازات أو الدورات التدريبية على نفسه في سبيل مصلحة العمل، ويمتنع عن تأدية مصالحه الخاصة وقت العمل والتفرغ للعمل المكلف بإدارته والمحافظة على ممتلكات المؤسسة وعدم استخدامها إلا في الصالح العام.  واستغلال وقته الخاص في تطوير نفسه بهدف تطوير أدائه في سبيل تحقيق الأهداف والاهتمام بتطبيق كل ما يخدم المؤسسة دون النظر إلى مصالحه الشخصية .

إن قيمةَ المُجتمع في أخلاقِه، فإن لم يحتسِب كلُّ فردٍ منه أنه جُزءٌ من هذا المُجتمع فإنه سيرَى أنه هو المُجتمعُ وحدَه، وهذه هي الأَثَرَةُ المُوجِعة.

إنه لن ينجحَ مُجتمعٌ كلُّ واحدٍ فيه لا يعرِفُ إلا كلمة “أنا”. فالمُجتمعُ أُسرةٌ يشتركُ جميعُ أفرادها في رِعايةِ كلِّ ما يُصلِحُها، واتِّقاء كلِّ ما يُفسِدُها، بالنظر إلى الصالِح العام فيُجلَب، وإلى الفساد العام فيُتَّقى، ضارِبين بكلمة “أنا” عُرضَ الحائِط؛ لأنه لن يَحيَا مُجتمعٌ كلُّ فردٍ من أفرادِه لا يرَى فيه إلا نفسَه.

بل لا تقومُ قائمةُ المُجتمعات دون أن يتحقَّق فيها الشعورُ بالآخرين، واستِحضارُ حقوقهم التي أوجبَها الله على كل فردٍ ليُحسِنَ رِعايَتها بما يُرضِي الله – جل وعلا – لا بما يُرضِي نفسَه دونَهم.