صفات المومن الصادق للدكتور محمد كنون الحسني
صفات المومن الصادق للدكتور محمد كنون الحسني
صفات المومن الصادق
يقول مولانا جل علاه ( قَدْ افْلَحَ الْمُومِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُون ).
لقد أكد الله سبحانه وتعالى لعباده في هذه الآيات تأكيداً لا ريب فيه أن من آمن وصدَّق بما جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد والنبوة والبعث والجزاء والجنة والنار وغير ذلك مما هو معلوم من الدين بالضرورة فهو من المفلحين الفائزين بكل خير، الناجين من كل ضير المبَشرين بسعادة الدارين، ثم ذكر تبارك وتعالى اسمه لأولئك المومنين ستِّ صفات مميزة لهم عن غيرهم هي: خشوعهم في الصلاة، وإعراضُهم عن اللغو، وفعلهم للزكاة، وحفظهم للفروج، ورعايتهم للأمانات والعهود، ومحافظتُهم على الصلوات، ثم بين سبحانه أن أولئك المتَّصفين بهذه الصفات الطيِّبة هم المستحقون دون غيرهم لفردوس النعيم لا يموتون فيها وما هم منها بمخرجين.
فالصلاة لأنها أجل العبادات نفعاً وأعظمها شأناً وأجملها أثراً في تربية النفوس وتطهير القلوب، عنَى بها الشارع أشد عناية فأمر بها الصغير والكبير، وحذر من التهاون بشأنها غاية التحذير، لتتمكن من نفوس المومنين وتصير مَلكَةً لهم فتنطبع قلوبهم على مراقبة الله والخوف منه، فلا يلابسوا منكراً ولا يقارفوا إثماً ولا يقربوا فاحشة ولا يقعوا في معصية، وذلك قوله سبحانه وتعالى (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ)ـ، وقوله (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ)، ولتكون صلاة المومن مقبولة عند الله موجبة لرحمته ورضاه يجب عند أدائها أن يُفرغ قلبه من شواغل الدنيا وأحوالها ويَفِرَّ من حديث النفس ووساوسها، ويُشْعر قلبَه بأنه واقف بين يدي من لا تخفى عليه خافية ولا تعجزه نفس عاصية وأن يظهر غايةَ الخضوع والمَسكنة والتواضع والمذلة باذلا قصارى جهده في استحضار عظمة ربه، فقد جاء في الخبر أن الله أوحى إلى عيسى بن مريم: إذا قمتَ بين يدي فقم مقام الحقير الذليل الذام لنفسه فإنها أولى بالذم، فإذا دعوتني فأدعني
وأعضاؤك تنتفض. وقال صلى الله عليه وسلم إن العبد إذا استفتح الصلاة استقبله الله بوجهه فلا يصرفه عنه حتى يكون هو الذي ينصرف، وقال: ( لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت فإذا صرف وجهَه انصرف عنه) ، وقال: ( أول شيء يُرفع من هذه الأمة الخشوع حتى لا ترى خاشعاً)، وقال: ( لا يقبل الله من عبد عملا حتى يشهد قلبه مع بدنه فإذا التزم العبد المومن في صلاته كمال الخشوع لربه صفا قلبه وطهرت سريرته وقوي إخلاصه وكان من المصلين الذين تكسبهم صلاتهم الفلاح والفوز والسعادة في الدنيا والآخرة)، فالخشوع أول صفات المومنين التي تميزوا بها عن غيرهم، لذلك قدمه سبحانه على سائر أوصافهم تنويهاً لهم بشأنه وإشارةً إلى أن من اتصف به كان خليقاً أن يتصف بغيره من الكمالات.
ثم وصفهم بالإعراض عن اللغو والامتناع عما لا يفيد من فعل أو قول فلا يشتغلون إلا بما يعنيهم ولا يصرفون أوقاتهم إلا فيما ينفعهم في دنياهم وآخرتهِم، يتعبون أجسامهم في الحصول على أرزاقهم ليصونوا وجوههم من ذل السؤال، وإذا كان لهم متسع من وقتهم بادروا إلى شغله في مسألة دينية يفهمونها أو رحم يصلونها، لا تراهم جالسين على فوَارع الطرقات ولا في مشارب القهوات، وتراهم أبعد الناس عن تتبع عورات الناس يكرهون إشاعة الفاحشة ويمقتون إذاعة السيئة وإذا مرُّوا باللغو مرُّوا كراماً، وإذا سمعوا اللغوَ أعرضوا عنه وقالوا”(لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ).
ثم وصفهم سبحانه بأنهم يدفعون الزكاة لمستحقيها ولا يمنعون حق المحروم والسائل فيها شكراً منهم لنعمة الله عليهم، ليحفظها من الزوال ويصونها من الاضمحلال، وثقة منهم بأن ما سيدفعونه اليوم من زكاة أموالهم هو فرض يستوفونه غداً يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً، فرضٌ ضمن الله لهم الوفاء به ومضاعفَتَه حتى تكون كل مائة منه بسبعين ألفاً أو أكثر، (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ).
ثم وصفهم بالعفة والاقتدار على كبح جماح القوة الشهوانية لا يضعون ماءهم إلا فيما أحل الله لهم من الزوجات وما ملكت أيمانهم من الإيماء، لا يتعدون ذلك الى ما حرم عليهم تأنف نفوسهم الكريمة أن يهملوا وعاءً طيباً أُعد لهم وحدهم إلى إناء قد ولغ فيه غيرهم، وتعاف قلوبهم الطاهرة أن يدعوا زوجاتهم الطيبات الطاهرات إلى نسوة خبيثات فاجرات لا تربطهم بهنَّ إلا الشهوة البهيمية والنزوات الحيوانية، أولئك الذين عناهم الله بقوله (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) ، وروى ابن أبي الدنيا عن أبي الهيتم بن مالك مرفوعاً: (ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله تعالى من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له)، ثم وصفهم سبحانه بحفظ الأمانات وأدائها كاملة إلى أهلها وبأنهم يوفون بعهدهم إذا عاهدوا ولا يتأخرون في إنجاز وعودهم إذا وعدوا، وإن ائتمنوا على سر كتموه أو على مال حفظوه، أو على عرض صانوه أو أُسند اليهم عمل لم يُهملوه، أُمناء على شرع الله لا يتهاونون في العمل بوصاياه، فهم لكل أمانة حافظون وبكل عهد قائمون، (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)، ثم وصفهم سبحانه بأن من شأنهم المحافظة على الصلوات يؤدونها في أوقاتها ولا يؤخرونها عن مواعيدها، عاملين بقول الله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا)، فإذا سمعوا المؤذن يقول حيَّ على الصلاة تركوا الدنيا وشاغلها وسعوا إلى بيوت اذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ليؤدوا ما فرض الله عليهم مع جماعات المسلمين، ولا يسمحون لأنفسهم مهما تكاثرت أشغالهم أن يصلوا الفريضة في غير وقتها الذي حدده الله لها، خشية أن يدخلوا في زمرة من توعدهم الله بقوله: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ).
تلك هي الصفات التي منحها الله كاملي الإيمان وميزهم بها عن غيرهم فليبحث كل مومن عنها في نفسه، فإن كان ممن تكمَّل بها جميعاً فليحمد الله وليضْرعْ اليه أن يرزقه دوام الاتصاف بها، وإن كان ممن فاته شيء منها فليبادر بالمثاب الى ربه وليجتهد في استكمال إيمانه بتحقيق هذه الصفات فيه ليكون ممن وعدهم الله بقوله: (أُولَٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) ، عن أبي هريرة مرفوعاً: “ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار، فمن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله”، وذلك قوله تعالى:(.. أُولَٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ.) ، وعن عبادة بن الصامت مرفوعاً: ” إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والارض، والفردوس أعلا الجنة درجة ومنها تفجر انهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون العرش، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس”، قوله: هم فيها خالدون، أي لا يخرجون منها ولا يموتون، ففي الصحيحين مرفوعاً: “يُدخل الله أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ثم يقوم مؤذن بينهم فيقول: يأهل الجنة لا موت ويأهل النار لا موت، كلٌ خالد فيما هو فيه”، وفي رواية عن ابن عمر مرفوعاً: “إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار جيء بالموت حتى يُجعل بين الجنة والنار فيُذبح ثم ينادى منادياً يأهل الجنة لا موت يأهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم وأهل النار حزناً إلى حزنهم.
إن المومن الكامل الإيمان في هذا الزمان قليل بل كاد أن يكون وجودُ كامل الايمان من المستحيل ومن تأمل ما ورد في الكتاب والسنة من صفات المومنين، علم صحة ما قلناه من ذلك قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) وقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) وقوله: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ، وقال صلى الله عليه وسلم: “المومن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب”، وقال: “المومن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف وخير الناس أنفعهم للناس”، وقال: “المومن هين لين حتى تخاله من اللين أحمق”، وقال: “المومن منفعة إن ماشيْته نفعك وإن شاورته نفعك، وإن شاركته نفعك، وكل شيء من أمره منفعة”، وقال: “المومن حسنُ الحديث إذا حدث، وحسنُ الاستماع اذا حُدث، وحسنُ البشر إذا لقي، ووفاءٌ بالعهد إذا وعد”، وقال: ” لا يستكمل العبد الايمان حتى يُحسن خُلقه، ولا يشفي غيظه وأن يودّ للناس ما يودُّ لنفسه، ولقد دخل رجال الجنة بغير أعمال ولكن بالنصيحة لأهل الإسلام” ، وقال: “لا يومن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” ، وقال: “لا يومن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين”، وقال: ” ثلاث من أخلاق الايمان: من إذا غضب لم يدخله غضبه في باطل، ومن إذا رضي لم يخرجه رضاه من حق، ومن إذا قدر لم يتعاط ما ليس له” ، وقال:” ثلاث من الايمان: الإنفاق من الإقتار وبذل السلام للعالم والإنصاف من نفسك”، وقال: “ثلاث من كن فيه يُستكمل إيمانه: رجل لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يرائي بشيء من عمله، وإذا عُرض عليه أمران أحدهما للدنيا والآخر للآخرة اختار أمرَ الآخرة على الدنيا” ، وقال: “من كان يومن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره، ومن كان يومن بالله واليوم الآخر فليُكرم ضيفه، ومن كان يومن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت، من كان يومن بالله واليوم الآخر فلا يُروعنَّ مسلماً، من كان يومن بالله واليوم الاخر فلا يلبس حريراً ولا ذهباً،من كان يومن بالله واليوم الاخر فلا يدخل الحمام بغير إزار، أي مكشوف العورة ينظر الى الناس وينظرون اليه، وقد لعن الله الناظر والمنظور اليه، ومن دخل الحمام بغير إزار فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ومن كان يومن بالله واليوم الاخر فلا يدخل حليلته الحمام، ومن كان يومن بالله واليوم الاخر فلا يجلس على مائدة يُدار عليها الخمر ،