
في ذكرى المسيرة الخضراء
في ذكرى المسيرة الخضراء
قال عليه الصلاة والسلام ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلا أدى شكرها، فإن قالها الثانية جدد الله له ثوابها، فإن قالها الثالثة غفر الله له ذنوبه، وقال ما انعم الله على عبد نعمة فحمد الله عليها إلا كان ذلك أفضل من تلك النعمة وإن عظمت، وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: الحمد لله كلمة الشكر إذا قال العبد الحمد لله قال الله شكرني عبدي، ويدخل في شكر اللسان التحدث بالنعم وإظهارها ونشرها قال تعالى ” وأما بنعمة ربك فحدث “، ومن شكر اللسان أيضا شكر الوسائط بالثناء عليهم والدعاء لهم قال عليه السلام :” من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله “، فإذا أوصل الحق تعالى إليك نعمة على يد إنسان سواء كانت دينية أو دنيوية فعليك في ذلك وظيفتان إحداهما أن تشهد انفراد الله تعالى بذلك فلا ترى تلك النعمة إلا منه وحده، وترى من سواه ممن أجراها على يده مقهورا مجبورا على ذلك مسلطا عليه الدواعي والبواعث حتى لم يجد انفكاكا عنه وهذا هو حق التوحيد . الوظيفة الثانية أن تشكر من وصلت إليك على يده بأن تدعو له وتثني عليه امتثالا لأمر الله وعملا بما جاءت به الشريعة قال تعالى: ” أن اشكر لي ولوالديك”، وقال صلى الله عليه وسلم :” أشكر الناس لله أشكرهم للناس، وقال: “من أسدى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تقدروا على مكافأته فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه، ولأن الله تعالى اختصه بأن أقامه في ذلك وأهله له قال إن هذا الخير خزائن ولتلك الخزائن مفاتيح فطوبى لعبد جعله الله مفتاحا للخير مغلاقا للشر وويل لعبد جعله الله مفتاحا للشر مغلاقا للخير”. إذا تقرر هذا فنقول: مما لا يجهله جاهل أن من أجل نعم الله على هذه الأمة السعيدة تولية أمير المؤمنين وأبي الوطنية ورمز ماضينا المجيد، المرحوم بكرم الله مولانا الحسن الثاني بن مولانا محمد الخامس طيب الله ثراهما وخلد في الصالحات ذكراهما. ذاك الذي أبى إلا أن يجعل كل أوقاته رهينة للمصلحة العامة. دائبة في الخدمة على ما يسعد الشعب والأمة، وقد مد الله سبحانه وتعالى هذا الرجل العبقري الفخيم بروح من عنده فألهمه التوفيق والرشاد والهداية إلى الطريق المستقيم كلما حل أو رحل، أو فكر وعمل أو أقام أو انتقل، ولأمر ما أراد الله ذلك النصر المبين والعز المكين الذي أحرزه بتفكيره في المسيرة الخضراء إلى أرض الصحراء، وبتسييره لها محققا ما أمله لشعبه وأمته من نصر وفتح من الله الكريم الذي يؤيد عباده المخلصين المحسنين ولا يضيع أجر العاملين. ففي السادس عشر من أكتوبر سنة 1975 أعلن المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراه عن تنظيم أكبر مسيرة سلمية في التاريخ مكنت من تحرير الأقاليم الجنوبية للمملكة،وقد وضعت هذه المسيرة السلمية حدا لحوالي ثلاثة أرباع قرن من الاستعمار والاحتلال المرير لهذه الأقاليم ومكنت بلادنا من تحقيق واستكمال وحدتها الترابية. فبعد أن بثت محكمة العدل الدولية بلاهاي في ملف المغرب وجاء رأيها الاستشاري معترفا للمغرب بحقه في صحرائه مؤكدا على وجود روابط قانونية و بيعة متجدرة كانت دائما قائمة بين العرش المغربي وأبناء الصحراء المغربية، أعلن جلالة المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراه عن تنظيم مسيرة خضراء لاسترجاع الصحراء وتحريرها . وفي الخامس من نونبر سنة 1975 خاطب جلالته المغاربة الذين تطوعوا للمشاركة في هذه المسيرة قائلا “غدا إن شاء الله ستخترق الحدود, غدا إن شاء الله ستنطلق المسيرة الخضراء, غدا إن شاء الله ستطأون طرفا من أراضيكم وستلمسون رملا من رمالكم وستقبلون ثرى من وطنكم العزيز . وبعد أربعة أيام على انطلاق المسيرة الخضراء بدأت اتصالات ديبلوماسية مكثفة بين المغرب وإسبانيا للوصول إلى حل يضمن للمغرب حقوقه على أقاليمه الصحراوية. ونورد هنا ما قاله الملك الحسن الثاني في كتاب -ذاكرة ملك- عندما سأله الصحفي الفرنسي “اريك لوران” في أي وقت بالضبط قررتم وقف المسيرة الخضراء؟ فأجاب: “في الوقت الذي أدركت فيه جميع الأطراف المعنية انه يستحسن أن تحل الدبلوماسية محل الوجود بالصحراء. ولم يكن إرسال المغاربة في المسيرة الخضراء بالأمر الأكثر صعوبة، بل كان الأكثر من ذلك هو التأكيد من أنهم سيعودون بنظام وانتظام عندما يتلقون الأمر بذلك، وهم مقتنعون بان النصر كان حليفهم، وذلك ما حصل بالفعل” ففي التاسع من نونبر 1975 يعلن الملك الحسن الثاني أن المسيرة الخضراء حققت المرجو منها وطلب من المشاركين في المسيرة الرجوع إلى نقطة الانطلاق أي مدينة طرفاية. وفي يوم 14 نونبر 1975 يوقع المغرب واسبانيا وموريتانيا اتفاقية استعاد المغرب بمقتضاها أقاليمه الجنوبية. وهي الاتفاقية التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة وصادقت عليها -الجماعة- التي أكدت في اجتماعها بالعيون يوم 26 فبراير 1976 مغربية الصحراء. وبذلك تم وضع حد نهائي للوجود الاسباني بالمنطقة وتم احترام موقف سكانها المعبر عنه من طرف ـ الجماعة ـ الهيئة الصحراوية الوحيدة ذات طابع التمثيلي الحقيقي. وقد تمت المفاوضات طبقا للفصل 33 من ميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن الذي عقد عدة جلسات بطلب من اسبانيا بعد الإعلان عن المسيرة الخضراء. ودعا مجلس الأمن في قراراته الأطراف المعنية إلى التحلي بضبط النفس والاعتدال وتجنب كل عمل من جانب واحد من شأنه تصعيد التوتر. وأشار المجلس في قرار صدر في 6 نونبر 1975 إلى ضرورة التعاون مع الأمين العام للتوصل إلى حل سياسي متفاوض بشأنه. وقد أثبت هذا المسلسل أن المغرب كان ملتزما تمام الالتزام بالشرعية الدولية في استكمال وحدته الترابية. وهكذا واصل الملك المجاهد الحسن الثاني رحمه الله مسلسل التحرير والبناء لا تزيده التحديات إلا رسوخا واعتمادا على التعبئة الشاملة والنهج الحضاري القائم على السلم والحوار والتمسك بحسن الجوار وبالشرعية الدولية. وحين اختاره الله إلى جواره واصل المسير وبنهج عال وأسلوب قويم رفيقه في الكفاح ووارث سره جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، ضمن إجماع وطني متجدد حول وحدته الترابية، وحرص قوي على بناء الاتحاد المغاربي على أساس متين وانفتاح تام على الجوار الأورو متوسطي والإفريقي، وبناء مغرب وحدوي ديموقراطي تنموي يكفل لكافة أبنائه حقوق المواطنة الكريمة، مغرب مبني على جهوية فعالة متناسقة، تمكن كل جهاته من التدبير الذاتي وفق خصوصياتها وفي ظل السيادة والوحدة الوطنية والترابية. فرغبة منه حفظه الله في إنهاء مشكل الصحراء المفتعل وإيجاد حل دائم ونهائي يراعي سيادته ووحدة أراضيه وخصوصيات المنطقة وفقا لمبادئ الديموقراطية واللامركزية التي يرغب في تطويرها، انتهج نصره الله نهج الجهوية الموسعة التي تمنح لأبناء منطقتنا الجنوبية تدبيرا ذاتيا وفق خصوصياتها وفي ظل سيادة المغربية ووحدته الترابية ، باعتباره حلا سياسيا توافقيا وعادلا لمشكل الصحراء، وقد حدد المغرب موقفه في معنى الحل السياسي الذي يقدم دائما على أنه حل وسط يتمثل في الحكم الذاتي ضمن إطار السيادة المغربية، وبالتالي ينتظر أن يسير السكان شؤونهم المحلية الخاصة مع الضمانات الكافية وبدون إخلال بالإمتيازات السيادية للمملكة المغربية وسيادتها الإقليمية. إن هذا الحل يشكل إمكانية واقعية جادة لتفويض اختصاصات لكل سكان المنطقة في الإطار الضروري للسيادة والوحدة الترابية للمغرب . ومن شأن هذا الحل تجنيب تحول المنطقة إلى فضاء للتوتر وتأهيلها ليس فقط لتحقيق اندماج الإتحاد المغاربي، وإنما أيضا تمكين هذا الإتحاد من النهوض بدوره على الوجه الأكمل في محيطه المتوسطي، وعلاقاته مع دول الساحل الإفريقي لتحصين منطقة الشمال الإفريقي برمتها من مخاطر البلقنة والإرهاب الدولي. إن هذا الحل هو السبيل الوحيد الذي يسمح بالخروج من النفق الذي وضعه فيه خصوم وحدتنا الترابية لدعم النزعة الانفصالية التي تشخصت في حركة البوليساريو، ويصون الحقوق الثابتة ويحفظ الخصوصيات ويفتح آفاقا رحبة للبناء الاقتصادي والتقدم الاجتماعي والتساكن المبني على التضامن الوطني. رحم الله الملك المجاهد محرر الصحراء ومبدع المسيرة الخضراء مولانا الحسن الثاني، وجزاه عن المغرب والمغاربة أحسن الجزاء، وحفظ الله مولانا الإمام جلالة الملك محمد السادس وأيده بنصره وعزه، وبارك اللهم خطاه حتى يرى المغرب رافلا في حلل السعادة والسؤدد والهناء.
|
|