مدنية الإسلام -1- للدكتور محمد كنون الحسني
مدنية الإسلام -1- للدكتور محمد كنون الحسني
مدنية الإسلام–1-
يقول مولانا جل علاه: ” إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ “. ويقول: ” وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ “، جاء الاسلام الدين الحق برسالة هذا النبي الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والناس في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء وفوضى عامة في الاعتقاد وغير الاعتقاد، وفي كل ضروب الحياة وفي كل أمور الاجتماع، من أصنام تعبد ونار تقدس وشر شائع وحق ضائع ورق ذائع، وضعيف مقهور وقوي ظالم، وشقاق وخصام وشرب الخمر ولعب الميسر والاستقسام بالأزلام، وغير ذلك مما لا يحصى من أنواع الشر والآثام، فلما سطع نور الاسلام بدعوته صلى الله عليه وسلم قضى على هذه الموبقات ومحا تلك الضلالات، وأخرج الناس من الظلمات إلى النور ومن الشقاء إلى السعادة ومن البؤس إلى العز ومن الضيق إلى اليسر، وأعطى كل ذي حق حقه ونصر الضعيف والضعيفة وأتى على تلك العادات السخيفة، ونشر راية العدل والسلام والمساواة والإخاء والود والصفاء بين هؤلاء الذين كانوا بالأمس على شفا حفرة من النار، فأنقذهم منها وجعل منهم هداة مصلحين وقادة مهتدين ورسل رحمة وخير ونور، ولكن بعد جهاد لقي فيه الرسول أشد أنواع الأذى وأشق ما لقيه نبي أو مصلح في سبيل دعوته، حتى جمع حوله خير الأصحاب والأنصار، فباعوا معه نفوسهم وآثروا الدين على كل عزيز لديهم من مال وأولاد وأهل وديار، ولم تمض ثلاث وعشرون سنة هي مدة الدعوة النبوية حتى تلألأ نور الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجاً جماعات وأفراداً، وتم نزول القرآن وبين الرسول للناس ما نزل اليهم فرسخت قواعد الإسلام وعمرت بها القلوب واطمأنت لها النفوس، ونجحت الدعوة المحمدية نجاحاً لم يكن لنبي ولا لمصلح منذ بعث الله آدم إلى الآن، وإلى أن تقوم الساعة ولو عاش الدهر أجمعَه، فما بالُكم والمدة ثلاث وعشرون سنة ولم يختر صلى الله عليه وسلم الرفيق الأعلى ولم يترك الدنيا حتى أكمل الله دينه وأتم نعمته وترك أمة هي خير أمة، في صدورها القرآن محفوظ وفي الرقاع مكتوب، وبالسنة والقرآن يعملون، وفي سبيل الله ونصرة دينه يجاهدون، حتى عمَّ الاسلام مشارق الارض ومغاربها في مدة لم تكن لغير الأمة الاسلامية، فلم تجيء سنة عشرين الهجرية في خلافة عمر بن الخطاب حتى كانت جزيرة العرب كلّها وبلاد الفرس والشام ومصر من المملكة الإسلامية، وما زال الفتح الاسلامي حتى كان معظم أسيا وشمال إفريقية وبلاد الأندلس وغيرها تحت نور الإسلام وسماحة الإسلام وعدل الإسلام ومدنية الإسلام التي لا مدنية فوقها، ثم خلف من بعد هؤلاء خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فزال من أيديهم هذا التراث العظيم، وذلك الملك الواسع ذلك ” ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ”، ولم يقتصروا على تخليهم عن الفضائل وانغماسهم في الرذائل بل نقموا من الفضيلة وأهلها فصاروا يحتقرون المتدينين بعد احتقارهم للدين، زاعمين أن المدنية تأبى الدين مع أن أخلاقهم وعاداتهم خليقة أن تهدم مدنيتهم الكاذبة المصطنعة من أساسها، عاجلاً أو آجلاً ، ” كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ “.
كم ترتاح النفس وينتعش السمع لذكر المدنية الصحيحة والتمدن الصحيح، مدنية الأخلاق السامية والآداب العالية التي تكون عنوان المجد ومبعث التقدم في نواحي الحضارة والعمران، تلك المدنية هي ما دعت اليه الأديان الإلهية بتعاليمها وكتبها السماوية وتسابقت في مضماره القوانين الموضوعة الصالحة، وإن الدستور الأعظم والقانون المحكم من جميع ذلك هو كتاب الله الحكيم، ذلك القرآن العظيم الذي قال الله تعالى في حقه: ” إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا “، فإنه لم يدع أصلاً من أصول الفضائل إلاَّ أتى عليه، ولا أماً من أمهات الصالحات إلا احياها، ولا قاعدة من قواعد النظام البديع إلا قررها، فآيات القرآن كلها وضعت لتدبير العالم وتنظمه كافلة حوائج الإنسان في هذا المعترك الحيوي، آخذة بأيدي العاملين بها إلى أسمى مراتب السعادة في هذه الحياة والحياة الأخرى، كفى قوله سبحانه:” مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ “، وقوله:” هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ “، فأين السذج من الناس الذين راحوا يتقولون على الإسلام باطلاً زاعمين أن مدنيته لم تبلغ منتهى الإبداع وغاية الكمال، أيَّةُ مدنية أرقى من مدنية الإسلام المرتكزة على مكارم الأخلاق التي هي سرُّ الحياة ورمز المجد
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت “”” فإنْ هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
أيَّة مدنية أرقى من مدنية الاسلام التي احتفظت بالآداب كاحتفاظ الصدف باللؤلؤ والسماء بالأقمار، فحضت المسلم أن يكون مثال الأدب في جميع أحواله حتى في مشيته ونظرته، قال تعالى: ” وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ “، أي خيلاء،” إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ “، أي في مشيته متكبر،” فخور”، أي على الناس بعلمه أو عمله أو جاهه أو غناه أو نحو ذلك، وقال عليه السلام:” من تعظم في نفسه أو اختال في مشيته لقي الله وهو عليه غضبان”، وقال:” بينما رجل ممن كان قبلكم يجر إزاره من الخيلاء خسف به فهو يتجلجل، – أي يغوص- وينزل في الارض إلى يوم القيامة”، وقال تعالى: ” قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ “، وقال عليه السلام: ” النظرة سهم من سهام إبليس فمن غض بصره عن محاسن امرأة أورث الله قلبه حلاوة يجدها إلى يوم القيامة”، وقال جرير بن عبد الله: “سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري”، وقال عليه السلام:” اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة، اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم”، أدبته حتى في لفظه ومنطقه ومعاملاته، قال تعالى: ” لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ “، وقال عليه السلام:” من كان يومن بالله واليوم فليقل خيرا أو ليصمت”، وقال تعالى: ” ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ” – يعني الغضب بالصبر والجهل بالحلم والإساءة بالعفو- ” وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ “، وقال عليه السلام:” إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله”، أي قولاً وفعلاً، وقال: ” ياأبا ذر اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحوها وخالق الناس بخلق حسن”.