مدنية الإسلام-2 – للدكتور محمد كنون الحسني
مدنية الإسلام-2 – للدكتور محمد كنون الحسني
مدنية الإسلام-2 –
تحدثنا في العدد الماضي عن أصول مدنية الإسلام التي تمتاز بأنها تجمع فضائل كثيرة وتنطلق من أن المسلم يحب الخير للناس كل الناس، ويكره الشر لهم وهو يهتم بأمر إخوانه لأن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، وهو لا يؤذى غيره لأن من آذى آدمياً كان كمن آذى الناس جميعا، وهذا هو الجانب الإنساني، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ ، عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أبنَاءِ أصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، عَنْ آبَائِهِمْ دِنْيَةً ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ :ألاَ مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أو انْتَقَصَهُ، أوْ كَلَّفهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أوْ أخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة.أخرجه أبو داود.
كما أن المسلم حين يقدم علي الخير للناس أو يبتعد عن إذايتهم لا يطلب مقابل ذلك إحساناً أو ثمناً بل يفعل ذلك لوجه ربه سبحانه:” إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا”
إن مدنية الإسلام أرشدت الإنسان إلى الوفاء بالعهد لأن الغدر يُزيل الطمأنينية وينزع من النفوس الثقة، وفي ذلك اختلال نظام المعاملات، قال تعالى:” وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ “، وقال عليه السلام:” لكل غادر لواء يوم القيامة يُعرف به”، وقال:” لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له”.
أرشدته إلى الصدق في قوله وفعله،” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ “، وقال عليه السلام:” عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً”، وقال:” مررت ليلة أسري بي بأقوام تُقرض شفاههم بمقاريض من نار، قلت من هؤلاء ياجبريل؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون”.
حضته على الآداب الاجتماعية فعلمته آداب اللقاء والمجالسة، قال عليه السلام:” ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غُفر لهما قبل أن يفترقا”، وسئل صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت وعلى من لم تعرف، وقال: “ثلاث يصفين لك وُدّ أخيك، تسلم عليه إذا لقيته، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه إليه”، وقال:” إن المسلميْن إذا التقيا فتصافحا وتساءلا أنزل الله بينهما مائة رحمة تسعة وتسعين لأبشهما وأطلقهما وأبرهما وأحسنهما مساءلة بأخيه”.
علمته أدب الجلوس، قال عليه السلام : “لا يقيمن أحدكم رجلاً من مجلسه ولكن توسعوا أو تفسحوا”.
علمته ما يجب عليه نحو إخوانه، قال عليه السلام:” حق المسلم على المسلم خمس، ردُّ السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس”.
علمته أدب الاستئذان عند دخول بيت غير بيته، لما في عدم الاستئذان من إزعاج أهله والإطلاع على ما يكره اطلاع غيره عليه، قال تعالى:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمْ ۖ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا ۖ هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ “، وفي البخاري عن سهل بن سعد قال: اطلع رجل من جحْرٍ ،أي ثقب مستدير، في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وفي يده مدرى يحك بها رأسه، فقال لو أعلم أنك تنظر لطعنت بها في عينك، إنما جعل الاستيذان من أجل غض البصر، أي ليلاَّ يقع على عورة أهل البيت ويطَّلع على أحوالهم، وفيه أيضاً : “من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقئوا عينه”، وفي رواية للنسائي: ” من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم ففقئوا عينه فلا دية له ولا قصاص”، وفي البخاري مرفوعاً:” إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجعْ”.
ومنعت من كشف عورات النساء لأنه مقدمة للزنى سدّاً للذرائع حتى لا يفكر أحد في ارتكاب هذه الجريمة، وإن زنى فوضعت له من الحدود ما يزجره وغيرَه عن ارتكاب هذه الفاحشة التي تسبب الشحناء والبغضاء وقتلَ النفس واختلاط الأنساب، قال تعالى: ” يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا “.
فأية مدنية بعد أرقى من مدنية الاسلام المتشبعة بروح الحياء والطهارة من الرذائل اللتين هما مبعث العز ورسول الفلاح، ومن رجع إلى القرآن وحدوده وما أعدت الشريعة للسارق من القطع، والزاني المحصن من الرجم ولغير المحصن من الجلد، ولشارب الخمر من الجلد، ولقاتل النفس من القتل وغير ذلك، علم ما انطوت عليه المدنية الإسلامية من الفضيلة ومحاربتها للرذيلة، وكفى قوله سبحانه وتعالى: ” وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ”، وكما أنها أوجبت الطهارة المعنوية دائماً أمرت بالطهارة الحسية فأوجبت على المسلم التطهر خمس مرات في اليوم والليلة لأداء الصلاة وعند قراءة القرآن، وأوجبت عليه الاغتسال يوم الجمعة وللعيدين وأن يغسل يديه إذا استيقظ من نومه، كل ذلك لحكمة بالغة وسر عظيم ليكون المسلم أشد الناس بنية وأعظمَهم قوة وأكمَلَهم تمتعاً بنعيم الحياة ولذاتها البريئة الحلال، كل ذلك بُعداً بالمسلم عن الجرائم التي تصرف الدوّل الأموال العظيمة للقضاء عليها، ولن تجد سبيلاً سوى الطهارة والنظافة اللتين حض الإسلام عليها حتى جعلهما أصلاً من أصول الدين وركناً من أركان الإسلام، قال عليه السلام: ” الدين النظافة”، وقال: “الطهور شطر الإيمان”.
أية مدنية أرقى من مدنية الاسلام التي أوثقت عرى الوحدة الاسلامية السامية وقررت ما كان في الاشتراكية من المبادئ العالية، قال تعالى:” إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ “، وقال عليه السلام:” المسلم أخوا المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره”، وحضت على الاتحاد والاجتماع والاتفاق، ونهت عن التنازع والخلاف والافتراق الذي عاقبته الفشل والخيبة وذهاب القوة، قال تعالى:” وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ “، وقال:” إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ “، وقال عليه السلام: “ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها”، وقال:” الجماعة رحمة والفرقة عذاب”، وقال:” من رأيتموه فارق الجماعة أو يريد أن يفرق أمة محمد كائناً من كان فاقتلوه فإن يد الله مع الجماعة، وإن الشيطان مع من فارق الجماعة يركض”، وقال “عليكم بالجماعة والعامة والمساجد، وإياكم والشعاب”.