مدنية الإسلام -3 – للدكتور محمد كنون الحسني
مدنية الإسلام -3 – للدكتور محمد كنون الحسني
مدنية الإسلام-3-
لا زلنا مع مبادئ المدنية والحضارة الإسلامية التي جاء بها نبي الهدى صلى الله عليه وسلم، فأية مدنية أرقى من مدنية الإسلام، عطفت على الشيخ الكبير والطفل اليتيم والمرأة الأرملة وحتى على الحيوان الأعجم، قال عليه السلام:” ليس منا من لم يوقر الكبير ويرحم الصغير”، وقال:” إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن، وإكرام ذي السلطان المقسط”، وقال:” إن أحب البيوت إلى الله بيت فيه يتيم يُكرمُ، وشرُّ بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يُساء إليه”، وقال:” الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله”، قال الراوي: وأحسبه قال:” وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر”، وقال:” إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته”، وقال:” الراحمون يرحمهم الرحمان، ارحموا من في الارض يرحمكم من في السماء”، وهذا يشمل كل ذي روح عاقل أو غير عاقل.
فأية مدنية أرقى من مدنية الإسلام التي رفعت عن كاهل الإنسانية عبء العظامية وسنت للأمم نظام العدل، ورفعت فوق الشعوب أعلام الحرية، ونادت بملء الصوت حتى أسمعت كل من في الأرض روح الديمقراطية والمساواة، قال تعالى:” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ “، وقال المهذب الأعظم صلى الله عليه وسلم :”إن الله أذهب عنكم عُبَيَّةَ -أي كِبْر ونخوة- الجاهلية وفخرها بالآباء إنما هو مومن تقي وفاجر شقي، الناس بنو آدم، وآدم خُلق من تراب”، وقال:” يأيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا أحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم”، فلم يجعل الدين ميزة لإنسان على إنسان، ولا فضلاً لامرئ على آخر إلا بالتقوى والعمل الصالح، ولم يكن شيء أبغض إلى الرسول من الاستعباد، وكان عمر رضي الله عنه أشد رجالات الإسلام بغضاً للعظمة والأبهة للامتيازات التي كان يدعيها الأشراف، ادعى يوماً يهودي على علي بن أبي طالب بحضرة عمر فقال: قم ياأبا الحسن ساو خصمك، فقام وعلى وجهه أثر الغضب وقعد بجانب ذلك اليهودي، وبعد الحكم وذهاب اليهودي قال عمر:” لعلك اغتظتَ مني ياعلي لقولي لك قم ساو خصمك؟ قال لا، ولكن غَضبتُ لقولك قم يا أبا الحسن، فكان ينبغي أن تقول قم ياعلي، أي فلا تكنيني بجانب خصمي حيث إن الكنية فيها تعظيم عند العرب، وهذه خير شرعة يستقي منها دعاة الحرية والمساواة.
أية مدنية أرقى من مدنية الاسلام التي هدت الانسان الى أقوم الطرق وأنجح السبل في هذا المعترك الحيوي، فلم تدعه إلى الدنيا تلهيه عما يحتاج اليه في معاده، ولم تكله إلى الآخرة تشغله عما هو ضروري إليه في حياته، بل أمسكته طرفي الدنيا والآخرة وأمرته أن يحسن القبض عليهما قال تعالى:” وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ “، وقال:” وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ “، ومما قالته الآداب الإسلامية:” إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً”، ولكي لا يكون المرء عالة على الناس ذليلاً بطَّالاً، أمرَتْه بالكسب مهما كان فيه مشقة وتعب، قال عليه السلام:” لأن يأخذ أحدكم أحبُلَه فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيكف بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه”، وقال:” من أمسى كالاًّ من عمل يده أمسى مغفوراً له”، وقال:”من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهم في طلب المعيشة”.
فأية مدنية أرقى من مدنية الإسلام دخلتْ كل باب وسلكت بالمسلم كل طريق للوصول الى أدرار الرزق وتقدّم الحضارة وازدهار العمران، لذلك حضت على العناصر الثلاثة: الزراعة والتجارة والصناعة، قال عليه السلام:” اطلبوا الرزق من خبايا الأرض”، وقال:” ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه صدقة، ولا يرزؤه – أي يصيب منه – وينقصه أحداً إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة”، وفي رواية “فلا يغرس المسلم غرساً فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طير إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة”، وقال عليه السلام :” عليكم بالتجارة فإنها تسعة أعشار الرزق”، وقال:” التاجر الصدوق الأمين مع النبيئين والصديقين والشهداء يوم القيامة”، وقال:” التاجر الصدوق تحت ظل العرش يوم القيامة”، وقال: ” التاجر إذا كان فيه أربع خصال طاب كسبه، إذا اشترى لم يذم وإذا باع لم يمدح ولم يدلس، ولم يحلف فيما بين ذلك”، وقال:” التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من اتقى الله وبرَّ وصدق”، وقال:” إن الله يحب العبد المحترف”، وقال :” كان داوود يأكل من كسب يده وكان زكرياء نجاراً”.
أية مدنية أرقى من مدنية الاسلام التي أمرت بحفظ الأمانات وردها إلى أهلها، وأوجبت على الحكام إذا حكموا أن يتحروا الحق ويحكموا بالعدل، قال تعالى:” إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ “، وقال عليه السلام:” لا إيمان لمن لا أمانة له “، وقال عليه السلام:” ما من أحد يكون على شيء من هذه الأمة فلم يعدل فيهم إلا كبَّه الله في النار”، وقال:” ما من أمير عشرة إلا يوتى به يوم القيامة مغلولاً لا يفكه إلا العدل”، وقال:” إن أعتى الناس على الله وأبغض الناس إلى الله وأبعد الناس من الله، رجل ولاه الله من أمر أمة محمد شيئاً ثم لم يعدل”، وقال لعلي: ” ياعلي احكم بالحق فإن لكل حاكم جائر سبعين درعاً من النار، لو أن درعاً واحداً وضع على رأس جبل شاهق لأصبح الجبل رماداً”.
فأية مدنية أعلى من مدنية الاسلام التي نهت عن أكل أموال الناس بغير حق لما في ذلك من الإخلال بنظام المعاملات، ولما يترتب عليه من الخصومات والمنازعات، قال تعالى:” وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ”، أكل أموال الناس بالباطل إما بطريق التعدي والنهب والغصب، أو بطريق اللهو كالقمار وأجرة المغني وثمن الخمر والملاهي ونحو ذلك، أو بطريق الخيانة في الوديعة والأمانة وشهادة الزور، أو بطريق الرشوة في الحكم، وقد لعن صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والماشي بينهما.