
مدنية الإسلام -4- للدكتور محمد كنون الحسني
مدنية الإسلام -4- للدكتور محمد كنون الحسني
مدنية الإسلام-4 –
مما يميز مدنية الإسلام عن غيرها من المدنيات أنها قائمة على معرفة خصائصها والتي بمعرفتها يزداد المرء ثقة وقناعة بكونها حلا لمشاكل البشرية ووسيلة لإسعادهم في الدارين وهي مدنية:
- ربانية المصدر : باعتبارها جزء من حيث يقول الحق عز وجل ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) .
- ربانية المنهج : انطلاقا من قوله تعالى (قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي) .
- ربانية الهدف والغاية : باعتبارها تنصرف إلى غاية عظمى وهي مرضاة الله عز وجل قال تعالى(وَمَاخَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )
ويترتب على أن القيم من عند الله تعالى عدة اعتبارات منها :
- أنها تتسم بالعدل :
فالعدل في الإسلام مطلق وبعيد عن أهواء البشر ، قال تعالى ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) .
ب- أنها تتصف بالقدسية : باعتبارها تُحترم وتلتزم القيم في الإسلام لأنها تقوم على الإيمان .
جـ- أنها تنال ثقة المسلم : باعتبارها مستمدة من كتاب الله فإن ذلك يؤدي إلى شعور عميق بالثقة الكاملة بتلك القيم .
د- ارتباطها بالجزاء الدنيوي والأخروي :فالتزام شرائع الإسلام وقيمه مرتبط بالترغيب والترهيب وبالوعد والوعيد قال تعالى ( وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا)
فأية مدنية أرقى من مدنية الاسلام أنارت طرق الحياة الخالدة وأخذت بأسباب العز والمجد، فحضت على المعارف والفنون، قال تعالى:” قل هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ”، وقال صلى الله عليه وسلم “طلب العلم فريضة على كل مسلم”، وقال:” كن عالماً أو متعلماً ولا تكن الثالث فتهلك”، ولم يخصص الدين علماً من العلوم بل أمر المسلم أن يتعلم كلّ ما هو مفيد يعود نفعه على الأمة والمجتمع الإنساني، ومن أعمل الطرف قليلاً في تاريخ الإسلام واطلع على ما كان للمسلمين من المدارس في مشارق الارض ومغاربها علم أن المسلمين هم سادة الأمم وأساتذة الشعوب، عَلِمَ أنهم هم الذين هذّبوا أوروبا وثقفوها، هم الذين خلصوها من مخالب العبودية الهمجية التي كانت عاضة عليها الحروب الصليبية، إذن ما دعا الجهال الأغبياء من الناس حتى رموا مدنية الاسلام بكل ما فيهم من نقائص، أغرهم ما عليه المسلمون اليوم من التأخر والانحطاط، فليس الوزر في ذلك على الإسلام ومدنية الإسلام، وإنما الوزر في ذلك على المسلمين وأبناء المسلمين، فإنهم هم الذين أرادوا لأنفسهم غير ما أراد لهم قرآنهم وشريعة رسولهم.
فأية مدنية أرقى من مدنية الاسلام التي نظمت للمسلمين طرق العبادات والمعاملات والجنايات والقصاص والحدود، حتى دخلت فيما بين المرء وزوجه فبينت له ما يجب عليه من حسن المعاملة والعشرة في جميع مراحل حياته، ونظمت تقسيم ميراثه من بعده منعاً من الاعتداء ومن توالد البغضاء والشحناء وحفظاً للأخوة الاسلامية أن تتفكك ولوحدتها الروحية أن تنهار، ومنعت من الربا حتى لا يحقد المدين على الدائن وحتى لا تنحل الرابطة الروحية الإسلامية، وما حوادث الاغتيال التي تحدث بسبب الربا حتى بين الأخ وأخيه عنَّا ببعيدة، فمن لنا بتحريك إحساس الشرف وبهز أعصاب المروءة في رؤوس هؤلاء الأغنياء الذين زعموا أن مدنية الإسلام لم تبلغ منتهى الإبداع وغاية الكمال، فماذا يريدون من مدنية الإسلام ياترى؟
لا تغتروا بزخروف القول وتنميق الكلام، لقد شهد لكم التاريخ وأيدته الحقائق أن مدنيتكم أسمى مدنية شهدها وعهدها الإنسان، ولم يسع فلاسفة العرب وحكامه ولم يسع كتابه ومفكروه أن يطمسوا نور الحقيقة، بل أرغمهم الإنصاف أن يعترفوا بفضلها على أوربا وعلى سائر الأمم أجمع.
إنه لعار أن تأخذ أمم الأرض روح الحياة الخالدة، روح الأخلاق والآداب من مدنيتكم وقرآنكم وأنتم بعيدون عنهما بعد السماء عن الأرض، على أنكم أولى الشعوب بتلك كلها، إن أجدادكم الأولين لا تزال أرواحهم ترفرف فوق رؤوسكم وتناديكم صارخة: لقد أضعتم علومنا ودرستم آثارنا واستهنتم بمجدنا وسلمتم ثمار أعمالنا إلى غيرنا، فهتكتم حرمتنا وأسقطتم عظمتنا حتى طمعت فيكم وحوش الغرب وذئاب الاستعمار، حتى أذلكم من كنا لهم سادة وكانوا لنا عبيداً فتباً لكم من أولاد، بمثل تلك الكلمات المؤلمة وذلك التقريع المر تناديكم أرواح أجدادكم وهي في عالم البرزخ، فاسمعوا لندائهم وتدبروا كلامهم واسألوا وجدانكم ثم اعملوا ما شئتم فسيرى الله عملكم ورسوله والمومنون.
إن من أشد الأخطار التي دفعتنا اليها المناظر السطحية للمدنية الحديثة ازدراء الواجبات الدينية حتى أصبحنا لا نرى إلا القليل من الصناع والعمال الفقراء يعمرون بيوت الله ويستمسكون بما عرفوه من قواعد الدين، ولعمري إنه نقص كبير في أخلاقنا ومفسدة لنفوسنا لم تهتم المدنية الحاضرة بمكارم الأخلاق ولم يعمل على احترام الدين، مع أن التربية مهما بلغت من النفس وأثرت في الخلق فلا توازي الدين، فلا يزال له الأثر الأول في تهذيب النفوس وتقويم الأخلاق، فهو الدعامة لنظام المجتمع وحفظ كيان الأمم، ألا ينبغي أن يتقي الله شباننا في دينهم ويجعلوا للواجب الديني نصيباً من أوقاتهم حتى يتحقق لنا ما نصبوا إليه من الحياة الصحيحة، والله يهدي من يشاء الى صراط مستقيم.