
الإنفاق في سبيل الله للدكتور محمد كنون الحسني
الإنفاق في سبيل الله للدكتور محمد كنون الحسني
الإنفاق في سبيل الله
يقول الله تعلى:” مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ” واسع لا يحد عطاؤه عليم بمن يستحق المضاعفة من المحسنين، خير ما ينفق فيه المال هو المصالح التي يكثر نفعها وتبقى فائدتها كالنفقة في إعلاء شان الحق وتربية الأمم على آداب الدين وفضائله التي تسوقهم إلى سعادة المعاشر والمعاد، والإنفاق في خدمة الدين بنشر العلوم وتسيير ومؤسسات الإحسان كالمستشفيات والملاجئ والجمعيات الخيرية، وبناء المدارس كل ذلك يعود نفعه على الأمة والملة، وذلك من الإنفاق في سبيل الله التي وعد الله المنفقين فيها بمضاعفة أجورهم وتكثير ثوابهم.
وعلى الإنفاق في سبيل الله قامت مصالح الملة الإسلامية والأمة المحمدية وقد كان أغنياء سلفنا يتفقدون حاجة المسلمين بأموالهم فهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه ينظر حاجة المسلمين إلى الماء في الجزيرة العربية القليلة الماء فيشترى البير العظيمة المعروفة ببير رومة بعشرين ألف درهم ويسبلها للمسلمين وهي لا زالت إلى الآن، ويرى حاجة الرسول إلى تجهيز الجيوش المجاهدة للإعلاء كلمة الله فيجهز جيش العسرة في غزوة تبوك وحده بألف بعير وسبعين فرسا، وأتى بعشرة آلاف دينار فوضعها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقلبها بيده ويقول: ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم، ويقول: “غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت وما هو كائن إلى يوم القيامة” وفي رواية للترمذي: “أنه صلى الله عليه وسلم حث على جيش العسرة فقال عثمان: يا رسول الله علي مائة بعير بأحلاسها وأقنابها في سبيل الله، ثم حث على الجيش فقال يا رسول الله: علي مائتا بعير بأحلاسها وأقنابها ثم حضر صلى الله عليه وسلم على الجيش فقال يا رسول الله على بمائة بعير بأحلاسها وأقنابها في سبيل الله، فنزل صلى الله عليه وسلم وهو يقول: “ما على عثمان ما فعل بعد هذه”، وأما أبو بكر فحدث عن سخائه ولا حرج، ويكفى شاهدا على ذلك قوله تعالى: “وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ٰوَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ”، أجمع المفسرون على أنها نزلت في أبي بكر، ففيها التصريح بإنفاقه بماله في سبيل الله، وروى الترمذي مرفوعا ما لأحد عنده يد إلا وقد كافأناه بها ما خلا أبا بكر، فان له يدا يكافئ الله بها يوم القيمة وما نفعني مال احد…. ما نفعني مال أبى بكر، فبكى أبو بكر وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله” وفى رواية للترمذي مرفوعا: “رحم الله أبا بكر زوجني ابنته وحملني إلى دار الهجرة وأعتق بلالا من ماله، وما نفعني مال في الإسلام ما نفعني مال أبى بكر” وجاء عمر بنصف ماله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما تركت لأهلك قال تركت لهم شطر مالي، فجاء أبو بكر بماله كله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما أعددت لأهلك يا ابن أبى قحافة، فقال أعددت لهم الله ورسوله، فبكى عمر وقال يا أبا بكر ما استبقنا في خير إلا كنت اسبقنا إليه.
هكذا ظل المسلمون الحقيقيون يساندون الإسلام وتعاليمه بأموالهم وأنفسهم، فرحم الله تلك الأرواح الكريمة الطاهرة وما قامت مصالح الأمة الأعلى السخاء بالأموال، ولكن المسلمين في هذا الزمان في غفلة عما يحتاج اليه الدين وما تقوم به مصالح المسلمين، قد تخلقوا بالخلق المهلك، خلق البخل البغيض فشحوا بأضعف المساعدات في سبيل الأمة والدين، يرى كل مسلم منا مؤسسات أسلافنا الطاهرين في كل جهة ومكان، يرى المساجد والملاجئ للضعفاء والمساكين، ويرى البنايات والأراضي المحبسة لإسناد ضروريات الدين من التعليم والوعظ والأئمة والخطباء والمؤذنين، وجميع ما تتوقف عليه شعائر الدين، نرى كل هذا و لكن نفوسنا الخبيثة لا تميل إلى أدنى تضحية ولا إلى الاقتداء بأي فرد من المحسنين، وهذه حالة لم تكن عليها حالة المسلمين السابقين الذين كانوا يحمون الإسلام بأنفسهم وأموالهم، إن الله تعلى يقول: “وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين”، فجعل عدم الإنفاق سببا في الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة، وقد سمع المسلمون السابقون هذا الأمر الإلهى فنفذوه ممتثلين مسرعين، فلو كنا معشر المسلمين مكانهم ولا مساجد ولا ملاجئ ولا مدارس ولا أحباس معدة خالدة للإنفاق على الدين وشعائره، كيف يكون موقفنا، هل كنا نفعل مثل فعلهم فنبنى المدارس والملاجئ و المساجد والمستشفيات؟ أم كنا نبخل كما نحن الآن فلا نبنى للدين مسجدا ولا للتعليم مدرسة ولا للإحسان المطلوب ملجأ أو مستشفى؟ الحق إن سيرتنا تسجل علينا بأننا مغايرون لسلفنا في أخلاقهم الإسلامية العالية بسبب اتصافنا البخل الذي أهلك الأمم ويهلكنا والذي هو أشد أنواع الظلم حتى صار حب المال أقوى في قلب المانع من حب الله، وشأن المال أعظم في نفسه من حقوق الله، فتبا للمال وتعسا له من معبود أغرى سواد الأمة بتأليهه وعبادته، تبا له من جيار طاغية ومعبود مطاع، لقد تحكم هذا الوبال الوبيل في العقول فسلبها الرشاد، وتحكم في الضمائر فأماتها وسلبها الحس والحياة، لكن لم يتحكم إلا على أصحاب النفوس الشريرة والقلوب المريضة والوجدان السقيم، لذا نرى كثيرا من الأغنياء عالمين بما عليه أمتهم من الجهل بأمور الدين ومصالح الدنيا وفساد الأخلاق، ويعلمون أن صلاحهم يتوقف على شيء من أموالهم ينفق على التربية والتعليم ونحوهما من المنافع العامة، ثم هم يدعون إلى بذل قليل من كثير مما ينفقونه في شهواتهم ولذاتهم فيبخلون بذلك ويرونه مغرما ثقيلا ولا يلتفتون لوعد الله للمنفقين في سبيله ولا لوعيده للباخلين بفضله، فكيف يوجد في نفس هؤلاء عرق يتحرك بالتألم لمصائب الإسلام وأهله ومن كان يرى أن ماله أفضل من دينه وهواه أرفع من رضوان الله كيف تطمئن نفسه في إيمانه وكيف ينجح ويسعد في حاله ومآله والملك كل يوم يدعوا عليه بالتلف، ففي الصحيحين مرفوعا: “ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا”، فينبغي لكل مسلم أن يعمل لإعمال شهود التضحية والإنفاق في سبيل مصالح الأمة والدين بقوله وفعله حتى يكون إماما وقدوة لغيره، فان الفضل الأكبر في هذه الأمة لم يبدأ بالإنفاق في عمل نافع لم يسبق إليه له أجره وأجر من اقتدى به، ففي حديث مسلم وغيره مرفوعا: “من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء”، وفيه: “إن هذا الخير خزائن ولتلك الخزائن مفاتح فطوبى لعبد جعله الله مفتاحا للخير مغلاقا للشر”.
فالحياة الحقة بقاء الذكر الجميل فالمرء وان طال عمره ميت ولا يبقى منه إلا الأثر الحسن، أخرج الشيخان وغيرهما مرفوعا: “إذا مات ابن ءادم انقطع عمله إلامن ثلاث: صدقة جارية، أو علم يشفع به، أو ولد صالح يدعوا له”.
يقول الله تعلى: “وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ ۚ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ ۚ “، وقال:” وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ “، وأخرج مسلم مرفوعا: “اتقوا الظلم فان الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دمائهم واستحلوا محارمهم”، قال صلى الله عليه وسلم : “لا يدخل الجنة بخيل ولا خب وهو الخداع الذي يفسد بين المسلمين بالخداع، ولا منان ولا خائن ولا سيء الملكة”، و قال صلى الله عليه وسلم “خصلتان لا تجتمعان في مومن البخل وسوء الخلق”، وأخرج البيهقي بسند حسن مرفوعا:”خلقان يحبهما الله وخلقان يبغضهما الله، فأما اللذان يحبهما الله فحسن الخلق والسخاء، وأما اللذان يبغضهما الله فسوء الخلق والبخل، وإذا أراد الله بعبد خيرا استعمله على قضاء حوائج الناس”، وأخرج ابن حبان والخرائطى في مكارم الأخلاق مرفوعا: “قال الله تعالى: اطلبوا الخير من الرحماء من عبادي تعيشوا في أكنافهم فأنى جعلت فيهم رحمتي، ولا تطلبون من القاسية قلوبهم فإنى جعلت فيهم سخطي”، وأخرج الطبراني وابن أبى الدنيا مرفوعا: “إن لله تعلى أقواما يختصهم بالنعم لمنافع العباد ويقرها فيهم ما بذلوها فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم”، وأخرج الدارقطنى والبيهقى وابن عدى وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر وغيرهم مرفوعا: “السخاء شجرة من أشجار الجنة أغصانها متدليات في الدنيا فمن أخذ بغصن منها قاده ذلك الغصن إلى الجنة”.
فالسخاء يدل على قوة الإيمان للاعتقاد أن الله تعلى ضمن الرزق، فمن تمسك بهذا الأصل قاده إلى الجنة، والبخل شجرة من الشجار النار أغصانها متدليات في الدنيا فمن أخذ بغصن منها قاده ذلك الغصن إلى النار ” أي البخل يدل على ضعف الإيمان لعدم وثوقه بضمان الرحمان وذلك يجره إلى دار الهوان، وأخرج الترمذي والبيهقى في الشعب مرفوعا: “السخي قريب من الله أي من رحمته، قريب من الناس أي من محبتهم له، قريب من الجنة بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس بعيد من الجنة قريب من النار، والجاهل السخي أحب إلى الله من عابد بخيل”، أي لأن الكرم نفعه متعد للغير والعبادة قاصرة على نفس المتعبد، ولأن العالم البخيل لم يعمل بعلمه فليس له في سلك التفضيل انتظام، وعن الضحاك في قوله تعالى: “إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا” قال البخل، أمسك الله أيديهم عن النفقة في سبيل الله فهم لا يبصرون الهدى، وقال بشر النظر إلى البخيل يقسى القلب وبقاء البخلاء كرب على قلوب المومنين، وقيل لو لم يدخل على البخلاء في لؤمهم إلا سوء ظنهم بالله لكان عظيما فان الله يقول: ” وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه”، وهم يسيئون الظن بوعد الله فيبخلون.