الإنسان والإصلاح في الأرض للدكتور محمد كنون الحسني

الإنسان والإصلاح في الأرض للدكتور محمد كنون الحسني

الإنسان والإصلاح في الأرض

إن الإصلاح في الأرض هو وظيفة هذا الإنسان، والغاية التي من أجلها خلقه الله تعالى باعتباره عبادة من العبادات: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ). فحينما قرر الباري سبحانه هذا القرار وهو عمارة الأرض بهذا الإنسان، طرحت الملائكة قضية الإصلاح والإفساد، فضد الإصلاح الإفساد. قالوا:( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)، فأجابهم سبحانه بقوله:( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ).

ومنذ ذلك الحين وهذا الإنسان يتحمل أعباء ومسؤولية الإصلاح في الأرض بجميع صور وأنواع الإصلاح، والنموذج الأول في هذه المهمة الصعبة هم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام والصالحون في أممهم وأتباعهم.

يقول الله تعالى على لسان نبيه موسى عليه الصلاة والسلام:(وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) الأعراف، وهو هنا بمعنى الرفق. ومنه قوله تعالى على لسان نبي الله شعيب عليه السلام قال:( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) هود. وهو هنا بمعنى الإحسان .. وهكذا سجل القرآن الكريم على لسان أنبياء الله ورسله دعوتهم إلى أقوامهم أنها دائما هي دعوة إلى الاصلاح في الأرض وقد ورد الأمر بالإصلاح في كتابه بمعنى عام من ذلك قوله تعالى (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا     ) الأعراف. قال المفسرون الإصلاح هنا بمعنى الطاعة ضد الإفساد الذي هو المعصية.

وأما حديث خاتم الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن الإصلاح فكثير نذكر منه بعض النصوص بحسب ما يسمح به المقام فقد قال الامام الترمذي من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا بلى قال صلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة لا أقول لحلق الشعر ولكنها تحلق الدين).

إن الله تعالى خلق هذا الكون بما فيه من نظام محكم دقيق متكامل صالح للأعمار وحذره من الإفساد فيه، والإصلاح العام في منظور الإسلام هو تصويب كل أعوجاج في ممارسة أمور الدين والدنيا، والعودة بها إلى الأصل الذي لم يلحقه فساد الزوائد، وهو التغيير إلى الأفضل والصلاح ضد الفساد، والإصلاح ضد الإفساد، وهذه مهمة قام بها المسلمون من الأنبياء والمرسلين كما بينت الآيات القرآنية. فقد بعثوا ببرنامج شامل للإصلاح، فقادوا سفينة الإصلاح بحكمة وسلام مبشرين ومنذرين وقاموا بواجبهم أحسن قيام وطهروا الأرض من الفساد والظلم والإجرام، وحولوها إلى مجتمعات رحمة وأخوة وسلام، وقد عرفت رسالاتهم بأنها رسالات إصلاحية وكانت أزمنتهم النموذج في الإصلاح الشامل سواء في علاقة الإنسان بخالقه أو في علاقته مع نفسه أو في علاقته مع إخوته أو في علاقته مع الكون والبيئة التي يعيش فيها.

فالإنسان إذا تلبس بهذه الصفة وحققها في نفسه، صار الإصلاح ديدنه حيثما حل وارتحل يصلح في أرض الله ليس خوفا من العقوبة ولكن طاعة لله تعالى، ولذلك تصدى رجال الإصلاح في كل زمان وفي كل مكان للمفسدين وقطعوا الطريق عنهم كما حكى ذلك القرآن الكريم عن قوم قارون الصالحون حيث جعلوا ينصحونه لما طغى وبغى قائلين له : ( وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين ) وذكر الله سبحانه وتعالى أنه بفضل مثل  هؤلاء تصلح الحياة ويقام الإصلاح في الأرض قال تعالى : (ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) البقرة الآية 249 .

ولقد جعل الله سبحانه وتعالى للإصلاح في الأرض توابا عاجلا في الدنيا وتوابا آجلا في الآخرة، فقال سبحانه وتعالى “من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مومن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أمهم بأحسن ما كانوا يعملون” فذكر أن من الجزاء العاجل في الدنيا الحياة الطيبة، وهي إنما تتحقق حين يصلح الإنسان علاقته بالله ومع الله ومع نفسه ومع أهله ومع بني جنسه ومع كونه كله بما فيه من حيوان ونبات وجماد .

نقل عن ابن شهاب الزهري رحمه الله تعالى : ” لم أسمع يرخص في شيئ مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها ” البخاري .

يقول الله تعالى ” لا خير في كثير من نجواهم غلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نوتيه أجرا عظيما “.