صلة الرحم للدكتور محمد كنون الحسني

صلة الرحم للدكتور محمد كنون الحسني

صلة الرحم

يقول الله جل علاه: “وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ “، أي واتقوا الأرحام أن تقطعوها، ويقول سبحانه:” فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ“، الرحم هم الأقارب وهم بعد الوالدين أكثر الناس صلة بالمرء وأسبقهم إلى معاونته، وأشدهم رغبة في وصول الخير إليه، وأعظمهم شفقة عليه ومحبة له واختلاطا به، وطريقة صلة الرحم أن يطعمهم إذا جاعوا ويقضي عنهم ديونهم إذا عجزوا عن الوفاء، ويؤمنهم إذا خافوا ويفرج كروبهم إذا ضاقوا بها ذرعا، وبالجملة يقوم بما هم في حاجة إليه فيتودد إليهم بالزيارة ويلاقيهم بالبشاشة والترحيب ويبادرهم بالسلام إذا لقيهم ويجتهد الاجتهاد كله في أن يتحببوا إليه ويتحبب إليهم، بمثل هذا تكون صلة الرحم والإحسان إلى ذو القربى فهل يوجد بيننا كثير من الناس يقومون بهذه الصلة ويتقون الله في الضعاف من أقاربهم، وشرط هذه الصلة القدرة عليها إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وبيننا معشر المسلمين كثير من القادرين يعيشون في هذه الدنيا لأنفسهم وفي داخل حدود أنانيتهم وقد أعماهم عما يجب عليهم نحو قرابتهم إما إسراف مفرط أوشح مطاع، فهم يقطعون هذه الصلة ولا يجتذبون قلوب أقاربهم بالإحسان إليهم، بل كثير منهم إذا رأى بين أقاربه فقراء ضعافا ينفى صلته بهم اشمئزازا من أن يكون بين أقاربه صانع فقير أو عامل أجير، كأنه أخذ عهدا على الله وميثاقا أن يديم عليه النعمة فلا تبيد أبدا إلى أن يفارق الدنيا، وكأن الإنسان في نظره برز إلى هذا الوجود ومعه هذه النعم وقد تلقتها القابلة يوم ميلاده كما تلقته، ونسي أن حطام الدنيا عرض زائل وعارية تنتقل من يد زيد إلى يد عمرو، وجهل أن حفظ النعم والعمل على دوامها ونمائها لا يكون إلا في الجانب الذي فيه الشكر، ” لئن شكرتم لأزيدنكم”، من شكر النعمة فقد قيدها بعقالها ومن لم يشكرها فقد تعرض لزوالها، ومن مظاهر شكر النعمة إعطاء الفقير حقه منها، فكيف إذا كان هذا الفقير من الأقارب الذين أمر الشارع بتقديمهم على غيرهم وحذر من تقديم غيرهم عليهم في إعطاء الزكاة الواجبة على غيرها، أخرج النسائي والترمذي مرفوعا:”الصدقة على المسكين صدقة وعلى القريب صدقتان، صدقة وصلة”، وأخرج الطبراني مرفوعا: ” والذي بعثني بالحق لا يعذب الله يوم القيمة من رحم اليتيم ولان له في الكلام ورحم يتمه وضعفه ولم يتطاول على جاره بفضل ماء أتاه الله، ثم قال يأمة محمد والذي بعثني بالحق لا يقبل الله صدقة من رجل وله قرابة محتاجون إلى صلته ويصرفها إلى غيرهم، والذي نفسي بيده لا ينظر الله إليه يوم القيمة”، وأخرج الطبراني أيضا: ” ما من ذي رحم يأتى ذا رحمه فيسأله فضلا أعطاه الله إياه فيبخل عليه إلا أخرج الله له من جهنم حية يقال لها شجاع يتلمظ فيطوف به”، وأخرج أيضا: “أيما رجل أتاه ابن عمه يسأله من فضله فمنعه منعه الله فضله يوم القيمة”.

 ثم إن كثيرا من المسلمين يجهل أن هذا الدين الحنيف يدعوا في كل ما يدعوا إليه من النصح والإرشاد إلى توثيق عرى الروابط التي بين المسلمين حتى يكونوا يدا واحدة من الفرد إلى الجماعة إلى الطائفة إلى القبيلة إلى الأمة، إلى الأمم الإسلامية على اختلاف أجناسها وألوانها، حتى أنه وحدها في الخطاب دلالة على هذه الرابطة، فقال: “كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ “، فإذا حض على احترام الأبوين أو صلة الرحم أو الاعتصام بالعروة الوثقى أو عدم التفرق أو الزكاة أو الحج أو شهادة أن لا إله إلا الله، فإنما يريد بذلك توثيق وجمع شمل الأمة وربطها برباط وثيق من الألفة والمحبة، فصلة الرحم نوع من هذه الأنواع لأن فيها من الروابط العائلية ما تجتمع به كلمة الأسرة، وحسب امرئ من أقاربه أن يكون محبوبا منهم دائم الصلة بهم ليحصل على كمال الإيمان ورضوان الله والفضل الذي تجلبه هذه الصلة، أخرج الشيخان مرفوعا: “من كان يومن بالله واليوم الأخر فليكرم ضيفه، ومن كان يومن بالله واليوم الأخر فليصل رحمه، ومن كان يومن بالله واليوم الأخر فليقل خيرا أو ليصمت”، وأخرج الحاكم مرفوعا: “من سره أن يمد له في عمره ويوسع له في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه”، وأخرج الشيخان واللفظ لمسلم: “عرض أعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في سفر فأخذ بزمام ناقته ثم قال يا رسول الله: أخبرني بما يقربني من الجنة ويباعدني عن النار؟ فكف النبي صلى الله عليه وسلم ثم نظر في أصحابه ثم قال لقد وفق هذا أو لقد هدي، قال كيف قلت؟ فأعادها فقال النبي صلى الله عليه وسلم : تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتوتي الزكاة وتصل الرحم، دع الناقة فلما أدبر قال صلى الله عليه وسلم: إن تمسك بما أمرته به دخل الجنة”، وأخرج أبو الشيخ وابن حبان والبيهقى: ” قيل يارسول الله من خير الناس؟ قال أتقاهم للرب وأوصلهم للرحم وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن  المنكر”، وأخرج البزار والطبراني مرفوعا: ” ثلاث من كن فيه حاسبه الله حسابا يسيرا وأدخله الجنة برحمته، قالوا وما هي يا رسول الله؟ قال تعطى من حرمك وتصل من قطعك وتعفوا عمن ظلمك، فإذا فعلت ذلك أدخلك الله الجنة”، وأخرج أحمد  عن عقبة بن عامر قال: ” لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بيده فقلت يارسول الله أخبرني بفواضل الأعمال؟ فقال يا عقبة: صل من قطعك وأعط من حرمك واعف عمن ظلمك، زاد الحاكم، ألا ومن أراد أن يمد في عمره ويبسط في رزقه فليصل رحمه”، وأخرج الطبراني، عن أبي ذر قال: “أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بخصال من الخير، أوصاني أن لا أنظر إلى من فوقي وأن أنظر إلى من هو دوني، وأوصاني بحب المساكين والدنو منهم، وأوصاني أن أصل رحمي وإن أدبرت، وأوصاني أن لا أخاف في الله لومه لائم، وأوصاني أن أقول الحق وإن كان مرا، وأوصاني أن أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة”.                                           

وقال الله عز وجل:” وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۙ أُولَٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ” وأخرج الشيخان عن أبي هريرة مرفوعا: ” إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال نعم أما ترضي أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت بلى، قال فهو لك، ثم قال صلى الله عليه وسلم : اقرءوا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ”، وأخرج أحمد مرفوعا: “إن أعمال بني ادم تعرض كل خميس وليلة جمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم”، وأخرج ابن حبان وغيره: ” ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن الخمر وقاطع الرحم ومصدق بالسحر”، وعن جماعة من الصحابة: ” كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا يجالسنا اليوم قاطع رحم، فقام فتى من الحلقة فأتى خالة له قد كان بينهما بعض الشيء فاستغفر لها واستغفرت له ثم عاد إلى المجلس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم”، وأخرج الشيخان مرفوعا: ” الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله”، وفي رواية للبخاري: “قال الله تعالى: أنا الله وأنا الرحمان خلقت الرحم وشققت لها إسما من إسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته”.

 فمن امتثل يأمة رسول الله لأوامر الشرع وصل ومن تمسك بآداب الدين نال غاية الأمل وانكشفت له الحقائق وظهرت له الأسرار، ولقد تمسك الصدر الأول بتعاليمه وفهموا أسرار أوامره فسعدوا وصلح حالهم وانتشر الأمن والرخاء فيما بينهم وعمت السعادة وبلغ الناس ما يؤملون من طمأنينة ورفاهية، عملوا بكلام الله وسنة رسوله فكان لهم بهذا الشرف الأكبر والمجد الأثيل وامتلكوا مشارق الأرض ومغاربها، وصدق الله لهم وعده، “وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ”، ” إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ “، كان سلفنا الصالح على تقوى من الله ورضوان أخلاقهم جميلة وأعمالهم جليلة قلوبهم بيضاء ومعاملتهم حسناء، ءامنوا بالرسول وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، كان المسلم فيما مضى يعفوا عمن ظلمه ويعطي من حرمه ويصل من قطعه، لا يخون الأمانة ولا يؤذى الجار ولا يحسد ولا يحقد، قلوبهم على قلب رجل واحد وما ذلك إلا لسطوع نور الإسلام في نفوسهم وتمكنه من قلوبهم، ” وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ “، فتحسنت أخلاقهم وصاروا إخوانا بنور الحق مهتدين، ولكنا خلفناهم فكنا شر خلف خرجنا عن آداب الدين وانحرفنا عن الصراط المستقيم بدعوى المدنية الحديثة الكاذبة والحضارة الوبائية الفتاكة، فضاعت الفضيلة وراجت سوق الرذيلة وإذا أصيب القوم في أخلاقهم… فأقم عليهم مأتما وعويلا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم : “سيأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ولا من القرءان إلا رسمه، مساجدهم عامرة بأبدانهم وقلوبهم خربة من الهدى”.