المحافظة على الغرس والماء للدكتور محمد كنون
المحافظة على الغرس والماء للدكتور محمد كنون
المحافظة على الغرس والماء
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ، أَوْ إِنْسَانٌ، أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ» يتأكد من حديث جابر رضي الله عنه حض الإسلام على المحافظة على البيئة بتنميتها بالزرع والغرس، وقد عزز هذه الدعوة بأن عد ذلك بابا من أبواب الخير وأجزل العطاء للعاملين فيه. فلا تعجز أخي المؤمن وبادر إلى إحياء الأرض بالغرس والتشجير، وإن كنت لا تدرك ثمرتها في حياتك؛ فقد أوصى الحبيب المصطفى أحباءه من المؤمنين بالغرس وتنمية البيئة ولو قامت الساعة؛ أخرج البخاري في الأدب المفرد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا»
لهذا لا تعرض نفسك أخي المؤمن لسخط الله بإفساد البيئة؛ فقد توعد الله المفسدين بالعذاب الأليم وفي سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “مَنْ قَطَعَ سِدْرَةَ صَوَّب اللهُ رأسَهُ في النارِ” جاء هذا الوعيد شديدا لمن قطع سدرة واحدة للدلالة على أهمية الحفاظ على مقومات البيئة الطبيعية وحفظ التوازن بين المخلوقات وعدم الاعتداء عليها عبثا وظلما؛ فالأشجار من النعم التي يتفيأ عباد الله بظلها، وتنتفع سائر مخلوقاته منها مسكنا وملجأ ومأكلا. وفي هذا المعنى وتأكيدا لهذا الهدي النبوي جاءت وصايا أبي بكر الصديق ليزيد بن أبي سفيان، حينما بعث جيوشا إلى الشام: “… وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة، ولا صبيا، ولا كبيرا هرما، ولا تقطعن شجرا مثمرا، ولا تخربن عامرا، ولا تعقرن شاة، ولا بعيرا إلا لمأكله، ولا تغرقن نخلا، ولا تحرقنه، ولا تغلل، ولا تجبن”
إن من مظاهر الإفساد التي نهى الإسلام عنها تلويث البيئة وتدنيس الطرقات، ورمي النفايات في الفضاءات العامة أخرج مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ – أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ – شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ» فإماطة الأذى عن الطريق تنظيف للمرفق العام المشترك بين الناس، ورفع لكل عائق مادي من نفايات صلبة أو سائلة، قال النووي: “والمراد بالأذى كل ما يؤذي من حجر أو مدر أو شوك أو غيره.” فلا تفسد فضاء بيئتك؛ فإن لغيرك فيه حقوقا يجب عليك رعايتها وصونها بل العمل بمدإ الإحسان فيها، أما أن تفسد فيها فاقتراف لاثم نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسم فيما أخرجه أبو داود عن مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أنه قَالَ: “اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالظِّلِّ” وهذا نهي صريح عن تلويث الأرض والمياه. سواء بفعل الإنسان المباشر، أم بما يترتب عن نشاطه الإنتاجي بما يلقيه في الطبيعة والمجاري وغيرها. وأمام تمرد الإنسان وجشعه لم يقصر الإسلام المحافظة على البيئة على الأفراد ومبادراتهم بل الدولة وأولي الأمر مسؤوليتها؛ ففي الحديث عن أبي موسى، أنه قال حين قدم البصرة: «بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، أُعَلِّمُكُمْ كِتَابَ رَبِّكُمْ وَسُنَّتَكُمْ، وَأُنَظِّفُ طُرُقَكُمْ» .
يقول الله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (الأنبياء:30) من بديع خلق الله أن جعل من الماء أساس الحياة، وهو نعمة ينزلها الله على عباده متى شاء (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) النحل:65 وبالتالي فكل مطر يرحم الله به مخلوقاته نعمة توجب شكران النعم لا كفرانها. ومن مظاهر الشكر المحافظة على الماء وصونه عن التلويث أو الاستهلاك المفرط. وقد حثت السنة المطهرة على الحفاظ على الماء بحماية مصادره وترشيد استهلاكه. ومن هنا جاء النهي عن الإسراف في استعمال الماء ولو أقدس أفعال المؤمن وهي التهيؤ للصلاة، أخرج الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ: “مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ؟ ” قَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ؟ قَالَ: “نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ”
إن الإسلام لم ينبه فقط إلى وجوب المحافظة على هذه المورد الثمين النادر، بل إنه شدد كذلك على ضرورة عدم إفساده؛ فنهى صلى الله عليه وسلم عن الاغتسال في الماء الراكد حتى لا يلوث فقال: “لا يغتسلنَّ أحدكم في الماء الدائم وهو جنب”. وحتى لو كان الماء جاريا فإنه لا يجوز البول فيه وتلويثه، قال النووي: “وإن كان قليلا جاريا فقد قال جماعة من أصحابنا: يكره والمختار أنه يحرم، لأنه يقذره وينجسه”