ذكرى الإسراء والمعراج ـ 1 ـ للكتور محمد كنون الحسني

ذكرى الإسراء والمعراج ـ 1 ـ للكتور محمد كنون الحسني

ذكرى الإسراء والمعراج

ـ 1 ـ

تحل بحر هذا الأسبوع ذكرى عظيمة ومناسبة جليلة للتذكر وأخذ العبر والدلالات، إنها معجزة الإسراء والمعراج التي يقول فيها  الحق سبحانه وتعالى (  سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )الإسراء1 .

لقد أيد الله سبحانه وتعالى نبينا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالآيات البينات والمعجزات الباهرات التي منها الإسراء والمعراج، حيث أظهره الله على بدائع غيبه وعجائب ملكوته وفرض عليه الصلاة التي هي عماد الدين، وكانت هذه المعجزة مناسبة للكفار حاولوا أن يشككوا بها المؤمنين في دينهم ويفرقوا اجتماعهم على نبيهم، فلم ينجح سعيهم لأن المومنين كانوا أرسخ عقيدة وأشد يقينا من أن يؤثر فيهم كلام المغرضين وتشكيك الكافرين، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم أصبح يحدث الناس بما رآه في هذه الرحلة السماوية ففزع قوم من المشركين إلى أبي بكر الصديق ولم يكن حضر عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد، فقالوا له: أرايت إلى صاحبك يحدث أنه أسري به إلى بيت المقدس ورجع من ليلته؟ فقال: أهو قال ذلك؟ قالوا نعم، فقال هو صادق، قالوا أتصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس ورجع في ليلة واحدة؟ فقال: إني لأصدقه على أبعد من ذلك، على خبر السماء في غدوه ورواحه، فسمي من ذلك اليوم الصديق.

فالإسراء والمعراج معجزتان باهرتان اختص بهما الله نبيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم دون سائر الأنبياء والرسل, ورفعه بهما إلى حضرة القدس التي لم يصل إليها نبي مرسل ولا ملك مقرب, وأراه ليلتها من عجائب آياته الكبرى في السموات والأرض ما لايحيط به إدراك العقل ولا يتعلق به الوهم.

وقد بدأ سبحانه الآية بالتسبيح أي تنزيه نفسه عما لايليق بكماله, وقرن التسبيح بهذا المسرى لينفي بذلك عن قلب صاحب الوهم ومن يحكم عليه خياله من أهل التشبيه والتجسيد ما يتخيله في حق الله تعالى من الحد والجهة والمكان، فكأنه يقول تنزيها لله الذي أسرى بعبده عن أن يكون إسراؤه به إلى جهة أو مكان يحل الله تعالى به، لأن الله سبحانه وتعالى منزه عن المكان والجهة. وإنما أسرى به ليريه عجائب ءاياته كما قال: “لنريه من آياتنا” وقد وصف الله نبيه بالعبودية في هذا المقام الذي شرفه فيه وأكرمه بما لم يكرم به أحدا من خلقه للدلالة على أنه صلى الله عليه وسلم بلغ أقصى درجات العبودية, وهي أشرف الأوصاف وأعلى المراتب, وكان صلى الله عليه وسلم يقدم وصفه بالعبودية على وصفه بالرسالة, كما في قوله: ” لاتطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم, ولكن قولوا عبد الله ورسوله” وقد بين سبحانه وتعالى أن الإسراء به كان إلى المسجد الأقصى, وهو بيت مقدس , ثاني مسجد وضع في الأرض بعد المسجد الحرام, وقد وصف الله المسجد الأقصى بأنه بارك حوله بكثرة الزروع والثمار, وبكثرة من بعث في تلك البلاد من الأنبياء, وبين الله سبحانه وتعالى في تمام الآية أن الغاية من الإسراء أن يرى صلى الله عليه وسلم عجائب آيات الله.

وقد جاء في الأحاديث الصحيحة بيان بعض ما رآه من آيات الله في مسراه ومعراجه, فقد روى أنه صلى الله عليه وسلم  فرج سقف بيته فنزل جبريل فشق من ثغرة نحره إلى أسفل بطنه، ثم قال جبريل لميكائيل: إئتني بطست من ماء زمزم كيما أطهر قلبه وأشرح صدره، فاستخرج قلبه فغسله ثلاث مرات ونزع ما كان فيه من أذى، واختلف إليه ميكائيل بثلاث طاسات من ماء زمزم، ثم أتى بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغه في صدره وملأه علما وحلما ويقينا، ثم أطبقه، ثم ختم بين كتفيه بخاتم النبوءة ، ثم أتى بالبراق مسرجا ملجما، وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل, يضع حافره عند منتهى طرفه أي بصره, وفي حديث ابن مسعود “إذا أتى على جبل ارتفعت رجلاه، وإذا هبط ارتفعت يداه فلا مشقة على راكبه في صعود ولا هبوط” فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فاستصعب عليه, فأداره جبريل بأذنه وقال مه, أبمحمد تفعلين هذا, وفي رواية: فقال له جبريل: ألا تستحيي يابراق، والله ما ركبك أحد أكرم على الله منه، فاستحيا حتى ارفض عرقا، وقر حتى ركبه، فانطلق هو وجبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره، وفي رواية فكان الذي يمسك بركابه جبريل وبزمام البراق ميكائيل, فسار بهما حتى بلغوا أرضا ذات نخل فقال له : إنزل فصل هنا، ففعل ثم ركب، فقال هل تدري أين صليت؟ قال: لا, قال: صليت بطيبة وإليها الهجرة. فانطلق البراق يهوي به, فقال له جبريل انزل فصل ففعل، ثم ركب فقال له جبريل: أتدري أين صليت؟ قال لا, قال: صليت بمدين عند شجرة موسى. ثم ركب فانطلق البراق يهوي به، ثم قال له جبريل انزل فصل, ففعل, ثم ركب فقال أتدري أين صليت؟ قال : لا، قال: صليت بطور سيناء حيث كلم الله موسى. ثم بلغ أرضا فبدت له قصور، فقال له جبريل انزل فصل، ففعل ثم ركب، وانطلق البراق يهوي به ثم قال له جبريل: أتدري أين صليت؟ قال لا: قال صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى. فساروا حتى أتوا على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عاد كما كان, فقال ياجبريل ما هذا؟ فقال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف, وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه. ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر كلما رضخت عادت كما كانت  ولايفتر  عنهم من ذلك شيء, فقال ياجبريل من هؤلاء؟ قال هؤلاء الذين تثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة.  ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع, وعلى أدبارهم رقاع يسرحون كما تسرح البهائم وياكلون الضريع,  وهو اليابس من الشوك، والزقوم ورضف جهنم، وهي الحجارة المحمات، فقال من هؤلاء ياجبريل؟ قال: هؤلاء الذين لايؤدون زكاة أموالهم، وما ظلمهم الله شيئا وما الله بظلام للعبيد. ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدر طيب ولحم آخر نيء خبيث, فجعلوا يأكلون من النيء الخبيث ويدعون النضيج الطيب، فقال ماهذا ياجبريل؟ قال: هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيب، فيأتي امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبا فتأتي رجلا خبيثا فتبيت عنده حتى تصبح. ثم أتى على خشبة على الطريق لايمر بها ثوب ولا شيء إلا خرقته, فقال ما هذا ياجبريل؟ قال: هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه، ثم تلا : “ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله”. ورأى صلى الله عليه وسلم رجلا يسبح في نهر من دم يلقم الحجارة، فقال صلى الله عليه وسلم من هذا؟ قال هذا آكل الربا. ومر صلى الله عليه وسلم بقوم مشافرهم أي شفاههم كالإبل يلتقمون جمرا فتخرج من أسافلهم, فقال من هؤلاء؟ قال: الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما. ومر صلى الله عليه وسلم على رجل قد جمع حزمة حطب عظيمة لايستطيع حملها وهو يزيد عليها, فقال من هذا ياجبريل؟ قال: هذا الرجل من أمتك يكون عنده أمانات الناس لايقدر على أدائها وهو يريد أن يحمل عليها. ثم أتى صلى الله عليه وسلم على قوام لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم, فقال من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم. وأتى صلى الله عليه وسلم على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم, فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع, فقال ما هذا ياجبريل؟ قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها. ثم رأى صلى الله عليه وسلم الجنة والنار ومر على موسى وهو يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر, فسار صلى الله عليه وسلم حتى أتى بيت المقدس ودخله من بابه اليماني، وإذا عن يمين المسجد وعن يساره نوران ساطعان، فقال: ياجبريل ما هذان النوران؟ قال: أما الذي عن يمينك فمحراب أخيك داود, وأما الذي عن يسارك فعلى قبر أختك مريم, ثم نزل عن البراق وربطه بباب المسجد بالحلقة التي يريبط بها الأنبياء عليهم السلام, وفي رواية مسلم فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء. فلما استوى النبي صلى الله عليه وسلم في صخرة بيت المقدس قال جبريل يامحمد: هل سألت ربك أن يريك الحور العين؟ قال نعم, قال فانطلق إلى أولئك النسوة فسلم عليهن وهن جلوس عن يسار الصخرة، فانتهى إليهن فسلم عليهن فرددن السلام, فقال من أنتن؟ فقلن خيرات حسان نساء قوم أبرار, ثم صلى هو وجبريل كل واحد ركعتين, فلم يلبث إلا يسيرا حتى اجتمع ناس كثيرون مع النبئين من بين قائم وراكع وساجد, ثم أذن مؤذن وأقيمت الصلاة فقاموا صفوفا ينتظرون من يؤمهم ، فأخذ جبريل بيده صلى الله عليه وسلم فقدمه فصلى بهم ركعتين, فلما انصرف قال جبريل يامحمد أتدري من صلى خلفك؟ قال : لا, قال: كل نبي بعثه الله. وفي حديث أبي هريرة فلقي أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم فقال إبراهيم: الحمد لله الذي اتخذني خليلا وأعطاني ملكا عظيما, وجعلني أمة قانتا يؤتم بي, وأنقذني من النار وجعلها علي بردا وسلاما, ثم إن موسى أثنى على ربه تعالى فقال: الحمد لله الذي كلمني تكليما, وجعل هلاك فرعون ونجاة بني إسرائيل على يدي, وجعل من أمتي قوما يهدون بالحق وبه يعدلون, ثم إن داود أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي جعل لي ملكا وعلمني الزبور, وألان لي الحديد وسخر لي الجبال يسبحن والطير, وأعطاني الحكمة وفصل الخطاب, ثم إن سليمان أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي سخر لي الرياح وسخر لي الشياطين يعملون لي ما شئت من محارب وتماثيل وجفان وقدور راسيات, وعلمني منطق الطير وءاتاني من كل شيء فضلا, وسخر لي جنود الشياطين, وفضلني على كثير من عباده المومنين, وآتاني ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي، وجعل ملكي ملكا طيبا لا حساب فيه ولا عقاب. ثم إن عيسى عليه السلام أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي جعلني كلمته وجعل مثلي مثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون, وعلمني الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل وجعلني أبرئ الاكمه والابرص وأحيي الموتى بإذن الله, ورفعني وطهرني وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم, فلم يكن للشيطان علينا سبيل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كلكم أثنى على ربه وأنا متن على ربي: الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين, وكافة للناس بشيرا ونذيرا، وأنزل علي الفرقان فيه تبيان كل شيء وجعل أمتي خير أمة أخرجت للناس, وجعل أمتي وسطا وجعل أمتي هم الآخرون والأولون, وشرح لي صدري ووضع عني وزري ورفع لي ذكري, وجعلني فاتحا وخاتما.فقال إبراهيم بهذا فضلكم محمد صلى الله عليه وسلم. وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من العطش أشد ما أخذه, فأتى بقدحين أحدهما عن اليمين والآخر عن الشمال, في أحدهما لبن وفي الآخر عسل, وفي رواية أتي بآنيات ثلاث مغطاة أفواهها, فأتى بإناء منها فيه ماء فشرب منه قليلا، ثم دفع إليه إناء فيه لبن فشرب منه حتى روى منه, ثم دفع إليه إناء فيه خمر فقيل له اشرب, فقال: لا أريده, فقال جبريل: أما إنها قد تحرم على أمتك. ثم أتي صلى الله عليه وسلم بالمعراج أي السلم الذي تعرج عليه أرواح بني آدم, فلم ير الخلائق أحسن منه, أما ترى الميت يمد إليه بصره إذا احتضر, وهو سلم من نور ومن جوهر تصعد فيه الأرواح إلى السماء فصعد صلى الله عليه وسلم حتى عرج هو وجبريل, وعن يمينه ملائكة وعن يساره ملائكة حتى انتهيا إلى باب من أبواب السماء الدنيا يقال لها ” باب الحفظة” وعليه ملك يقال له إسماعيل وهو صاحب سماء الدنيا,  … يتبع