فضل شهر شعبان وليلة نصفه للدكتور محمد كنون الحسني

فضل شهر شعبان وليلة نصفه للدكتور محمد كنون الحسني

 

فضل شهر شعبان وليلة نصفه

.إن من حكم الله تعالى وأفضاله على عباده, أن فاضل بين الأزمنة فاختار منها أوقاتا وأياما وساعات خصها بمزيد من الفضل وجازى عن العمل فيها بعظيم من الثواب. ليكون ذلك أدعى إلى الاجتهاد في طلب مرضاة الله, واغتنام الفرص لاجتلاب ثوابه وأجره,  فقد روى الطبراني في الكبير عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( افعلوا الخير دهركم وتعرضوا لنفحات رحمة الله. فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده). وروى أيضا عن محمد بن مسلمة الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسم (إن لربكم من أيام دهركم نفحات فتعرضوا لها, لعله أن يصيبكم نفحة منها فلا تشقون بعدها أبدا). ففي كل يوم جعل الله لعباده محطات للتقرب إليه بالفرض والنفل, وفي كل أسبوع خصص سبحانه أوقاتا وفضلها على غيرها للاجتهاد في العبادة والدعاء, وفضل خلال السنة شهورا على شهور, وأوقاتا على أوقات حتى يخلق لعباده مجالات للاجتهاد وطلب الرحمة والغفران, ليتزودوا من دنياهم التي هم عنها راحلون, ويستعدوا لأخراهم التي طالما هم عنها غافلون، ويغتنموا فواضل أيامهم وأزمنتهم التي هم عنها ساهون, ومن الأيام المعدودة والشهور المفضلة المخصوصة بمزيد من الأجر والثواب, شهرنا هذا شعبان الذي ورد فيه عن رسولنا صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة تخصص فضله وتوحي بما أعد الله فيه من الثواب والأجر لعباده الصالحين، وقد سمي بشعبان لأن العرب كانوا يتشعبون فيه لطلب المياه ، وقيل تشعبهم في الغارات ، وقيل لأنه شَعَب أي ظهر بين شهري رجب ورمضان، ويجمع على شعبانات وشعابين, وقد روي عنه عليه السلام أنه قال لأصحابه: ( أتدرون لم سمي شعبانا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم , قال: لأنه يتشعب فيه خير كثير لرمضان), وعن أسامة بن زيد قال: قلت يارسول الله: لم أرك تصوم في شهر من الشهور ما تصوم في شعبان ؟ قال: ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان, وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين, وأنا أحب أن يرفع عملي وأنا صائم).وفي هذا إشارة إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان – الشهر الحرام وشهر الصيام – اشتغل الناس بهما عنه ، فصار مغفولا عنه ، وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيام شعبان لأن رجب شهر حرام ، وليس كذلك.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت:  كان أحب الشهور إلى النبي صلى الله عليه وسلم شعبان, وعنه عليه السلام: شعبان شهري ورمضان شهر أمتي, شعبان هو المكفر ورمضان هو المطهر.

ففي هذه الأحاديث النبوية الشريفة إشارات زكية إلى فضل هذا الشهر ومكانته بين الشهور , وفضل العمل فيه, إذ جعله الله بعد شهر  رجب وقبل شهر الخير والبركة والرضوان رمضان, فكان كمقدمة لرمضان يستعد فيه المؤمن لملاقات هذا الشهر العظيم فيصوم ويعود جسمه على مزيد من العمل الصالح, لأن العبد المؤمن لاينتظر حلول شهر رمضان لكي يتقرب إلى الله بالفرض والنفل, بل يفعل ذلك طوال السنة فإذا جاء رمضان ضاعف من فعله وزاد من عمله واجتهد في استغلال كل لحظة من وقته في التقرب إلى الله واغتنام فضل أيام رمضان. فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( نقوا أبدانكم بصيام شعبان لصيام رمضان, فما من عبد يصوم ثلاثة أيام من شعبان, ثم يصلي علي مرارا قبل إفطاره إلا عفر الله له ما تقدم من ذنبه, وبارك له في رزقه, وأخبرني جبريل أن الله تعالى يفتح في هذا الشهر ثلاثمائة باب من الرحمة) فأي فضل هذا أعده الله لعباده, وأي رحمة ينشرها سبحانه على خلقه في هذه الأيام المباركة, وأي نفحات تعم الأمة الإسلامية في هذه الفترات, فبادر أخي المسلم إلى اغتنام الفرصة, واجتهد في العمل والصالح والتقرب إلى ربك بأحسن الأعمال, مع الوقوف على الحدود الشرعية والمحافظة على الآداب المرعية, واجتناب المناهي والمحرمات, وتذكر  أن تقوى الله هي عماد هذا الدين وأساس كل عبادة , وأن بر الوالدين والإحسان إلى جارك، وعدم إداية الناس, ومعاملتهم التعامل الحسن, وخدمة الدين والوطن والأهل, والابتعاد عن الغش والتدليس والكذب وخيانة الأمانة والزور…كلها أعمال صالحة, أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: ( اجتنبوا السبع الموبقات, قيل يارسول الله, وما هن؟ قال: الشرك بالله, والسحر, وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق, وأكل مال اليتيم, وأكل الربا, والتولي يوم الزحف, وقذف المحصنات الغافلات المومنات) وفي رواية لهما أيضا: (الكبائر: الإشراك بالله والسحر وعقوق الوالدين, وقتل النفس واليمين الغموس وقول الزور).

وفي هذا الشهر الكريم ليلة عظيمة إنها ليلة النصف من شعبان الأبرك, المخصوصة بالفضل العظيم والرحمة الشاملة, والخير الجسيم, وهي الليلة التي تنسخ فيها الآجال والأعمار, فقد ورد في فضلها  أحاديث وآثار كثيرة , من ذلك ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:( جاءني جبريل ليلة النصف من شعبان وقال يامحمد, ارفع رأسك إلى السماء, فقلت ما هذه الليلة؟ قال: هذه ليلة يفتح الله فيها ثلاثمائة باب من أبواب الرحمة, يغفر الله لجميع من لايشرك به شيئا, إلا أن يكون ساحرا أو مصرا على الزنا أو مدمن خمر). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا كانت ليلة النصف من شعبان, يدفع لملك الموت صحيفة يقال له اقبض أرواح من في هذه الصحيفة, فإن العبد ليغرس الأغراس وينكح الأزواج ويبني البنيان واسمه قد خرج في صحيفة الموتى وهو لايشعر. وعنه صلى الله عليه وسلم أيضا:«إنَّ الله يغفر في ليلةِ النصفِ من شعبان لأكثرَ من عددِ شعرِ غنم كَلْب». وكلب: قبيلة مغنمةٌ كثيرةُ الأغنام.

فهي ليلة إذن يغفر الله فيها الذنوب, ويقبل التوبة من عباده, ويفتح فيها أبواب رحمته, وهي مناسبة للمؤمن  للعمل الصالح والدعاء الخالص, والتضرع للمولى عز وجل لعله يقبل التوبة ويتجاوز عن الذنب ويكتب العبد مع الناجين الصالحين, وهي ليلة أيضا ترفع فيها الأعمال وتحصى الأرواح التي سيقبضها ملك الموت وتسجل بوقتها وتاريخها والإنسان لايدري أنه أصبح من عداد الموتى في تلك السنة. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنَّ الله جَلَّتْ قدرتُهُ يَطَّلِعُ ليلةَ النصفِ إلى خَلْقِهِ, فيغفرُ لجميعِ خَلْقِهِ إلا لمشركٍ أو مُشاحن».

وأفضلُ الأعمالِ عند اللهِ ربِّ العالمين وأفضلُ الخلقِ عند اللهِ جلَّ وعلا سلامةُ الصدرِ ومَنْ كان عن الغِلِّ والحسدِ مُنَزَّهًا, ومِنْ ذلك مُبَرَّئًا, وأمَّا مَنْ انطوى قلبُهُ على شيءٍ من ذلكَ فهو بِمَبْعَدَةٍ من المغفرةِ في ليلةِ النصفِ من شعبان مع عمومِ المغفرةِ لأهلِ الأرضِ, إلا للمشركِ الذي يشركُ باللهِ ربِّ العالمين مَعَهُ غَيرَهُ فإنَّ ذلك لا يُغْفَرُ بحالٍ من الأحوالِ لا دنيا ولا آخرة, إذا ما ماتَ على ذلكَ ولم يَتُبْ منه مُنِيبًا مُوَحِّدًا, وكذلك الذي انطوى قلبُهُ على الشحناءِ, على البغضاء, على الغِلِّ, على الحسد, فهذا متروكٌ مُهْمَلٌ, وهذا بِمَبْعَدَةٍ أنْ ينالَهُ شيءٌ مِنْ عمومِ المغفرةِ التي تتنزلُ على الخَلْقِ في ليلةِ النصفِ من شعبان, وفي ((صحيح سنن ابنِ ماجه)) عن عبدِ الله بن عمرو – رضي الله عنهما -: «قيل للنبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: من أفضلُ الناس؟ فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: كلُّ مَخْمُومِ القلبِ صدوقِ اللسانِ – كلُّ مخمومِ القلب صدوق اللسان هذا أفضلُ الناس -, فقالوا: يا رسولَ اللهِ صدوق اللسان عرفناه, فما مخمومُ القلب؟ قال النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: هو التَّقِيُّ النَّقِيُّ الذي لا إثمَ فيه ولا بغي ولا غِلَّ فيه ولا حسد.