ظاهرة الغش بمناسبة أيام الامتحانات للدكتور محمد كنون الحسني
ظاهرة الغش بمناسبة أيام الامتحانات للدكتور محمد كنون الحسني
ظاهرة الغش
بمناسبة أيام الامتحانات
الغش ظاهرة خطيرة و سلوك مشين. له صور متعددة ، و أشكال متنوعة ، ابتداء من غش المسؤول عن مصالح الناس والأستاذ بمستقبل الأبناء، و مرورا بغش الأب لأهل بيته ، و انتهاء بغش العامل في عمله والصانع في حرفته والتلميذ في دراسته وامتحانه.
ولقد ذمّ الله عزّ وجلّ الغش وأهله في القرآن وتوعدهم بالويل، ويُفهم ذلك من قوله تعالى:( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينْ . الّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُون . وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) فهذا وعيد شديد للذين يبخسون- ينقصون- المكيال والميزان، فكيف بحال من يسرقها ويختلسها ويبخس الناس أشياءهم؟ إنه أولى بالوعيد من مطففي المكيال والميزان. وقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من الغش وتوعّد فاعله،إذ روي عنه: “من غشنا فليس منا”، وهذا يعم الغش في المعاملات، والغش في الامتحانات،فكفى باللفظ النبوي “ليس منا” زاجراً عن الغش، ورادعاً من الولوغ في حياضه الدنسة، وحاجزاً من الوقوع في مستنقعاته الآسنة. و المتأمل في واقع الناس يجد أنهم يمارسون صوراً من الغش في جميع شؤون حياتهم ومن ذلك:
أولاً: غش المسؤول عن مصالح الناس وتفريطه في حقوقهم: عن معقل بن يسار المزني- رضي الله عنه- أنه قال في مرضه الذي مات فيه:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: )ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشٌ لرعيته إلا حرّم الله عليه الجنة( ، ففي هذا وعيد شديد يدخل في كل من استرعاه الله رعيّة سواءً كانت صغيرة أم كبيرة، ابتداءً من رب الأسرة إلى الموظف فالأستاذ المربي، فالمسؤول عن مصالح الناس…. ، فالموظف يجب عليه أن ينصح في وظيفته وأن يؤديها على الوجه المطلوب شرعاً دون غش ولا خداع، ودون تأخير لأعمال الناس ومصالحهم، وليعلم أنه موقوف بين يدي الله عزّ وجلّ. فما ولاه الله هذه الوظيفة إلا ليديم النصح للمسلمين. وكذلك الأب يجب عليه أن ينصح أولاده، وألا يفرط في تربيتهم بل يبذل كل ما يستطيع ليقي نفسه وأولاده من نارٍ وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد. قال ابن القيم رحمه الله: “وكم ممن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله وترك تأديبه، وإعانته على شهواته، ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه، وأنه يرحمه وقد ظلمه، ففاته انتفاعه بولده وفوَّت عليه حظه في الدنيا والآخرة”، والأستاذ عليه أن ينصح في تربية وتعليم الأبناء ولا يتعلل بالمعوقات والمشاكل ليهمل الأبناء ويفرط في تربيتهم، فهم أمانة بين يديه يسأل عنهم يوم القيامة.
ثانيا:الغش في البيع والشراء: وما أكثره في زماننا في أسواق المسلمين!! ويكون الغش فيهما بمحاولة إخفاء العيب، ويكون في طرق أخرى كالغش في ذاتية البضاعة أو عناصرها أو كميتها، أو وزنها أو صفاتها الجوهرية أو مصدرها.
ثالثاً: الغش في النصيحة: وذلك بعدم الإخلاص فيها والقصد من بذلها أغراض دنيوية ، فمن حق الأخُوّة بين المؤمنين أن يتفانى الأخ في نصح أخيه ويمحص له ذلك، فالمؤمنون نَصحة والمنافقون غششة. والمؤمن مرآة أخيه إذا رأى فيه عيباً أصلحه. والنصيحة تكون بكف الأذى عن المسلمين، وتعليمهم ما يجهلونه من دينهم، وإعانتهم عليه بالقول والفعل، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم، بجلب النافع لهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، برفق وإخلاص، والشفقة عليهم. روى الحافظ أبو القاسم الطبراني بإسناده أن جرير بن عبد الله البجلي-رضي الله عنه- أمر مولاه أن يشتري له فرساً، فاشترى له فرساً بثلاثمائة درهم، وجاء به وبصاحبه لينقده الثمن، فقال جرير لصاحب الفرس : فرسك خير من ثلاثمائة درهم، أتبيعه بأربعمائة درهم؟ قال: ذلك إليك يا أبا عبد الله. فقال: فرسك خير من ذلك أتبيعه بخمسمائة درهم؟ ثم لم يزل يزيده مائة فمائة، وصاحبه يرضى وجرير يقول: فرسك خير إلى أن بلغ ثمانمائة فاشتراه بها. فقيل له في ذلك فقال: إني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم.
رابعا: الغش عند أهل الحرف والصنائع، وما أكثره حيث يتفق على شيء وينجز غيره، ويتواعد على زمن ويخلفه مرات ومرات، ويدلس ويخفي العيوب ويبدي المحاسن.
خامساً: الغش في الامتحان: وما أكثر طرقه ووسائله بين الطلاب والطالبات!! وسبب ذلك ضعف الوازع الديني، ورقة الإيمان، وقلة المراقبة لله تعالى أو انعدامها. فظاهرة الغش عرفت انتشارا ليس على مستوى المراحل الابتدائية فحسب ، بل تجاوزتها إلى الثانوية والجامعة ,فكم من طالب قدم بحثا ليس له فيه إلا اسمه على غلافه, و كم من باحث قدم مشروعا و لا يعرف عما فيه شيئا. بل و قد تعجب من انتكاس المبادئ عند بعض الطلاب، فيرمي من لم يغش بأنه مقعد و متخلف و جامد، و لربما تمادى أحدهم فاتهم الطالب الذي لا يساعده على الغش بأنه لا يعرف معنى الأخوة و لا التعاون، ترى كثيرا منهم يلجأ إلى الغش في الامتحانات، و هو قد قرأ حديث الرسول صلى الله عليه و سلم : ( من غشنا فليس منا ) ، فلا يحرك فيه ساكنا. لأنه قد استقر في ذهنه أنه لا علاقة بين العلم الذي يتعلمه و بين العمل الذي يجب أن يأتي به.و لا أبالغ إن قلت : إن ظاهرة الغش قد تسربت حتى إلى بعض المدرسين و المراقبين، فمنهم من يعتبر غض البصر عن النقل والغش مساعدة للطلبة ورفقا بهم، هل سأل هذا الأستاذ نفسه عن الظلم الذي يمارسه في حق المخلصين الذين قضوا شهورا في الكد والاجتهاد؟، وعن الظلم الذي يمارسه في حق المجتمع بتخريج ثلة من الغشاشين الفاشلين؟
إن الغش هو حيلة الكسول ، و هو طريق الفاشلين . و دليل على ضعف الشخصية حيث أن الذي يغش لا يجد الثقة في نفسه بأنه قادر على تجاوز الامتحانات بنفسه و جهده و استذكار دروسه لوحده، و الإجابة معتمدا على مذاكرته، فأي خير ننتظره من هذا وأي إخلاص نتوقعه منه إذا ما ولي مصالح الناس وأمورهم.
الغش كما قلنا له أشكال متعددة ، و يدخل في مجالات شتى ، و لكن من أخطر أنواع الغش هو الغش في الأمور التعليمة ، و ذ لك لعظيم أثره و شره ، و من ذلك :
- أنه سبب لتأخر الأمة ، و عدم تقدمها و عدم رقيها ، و ذلك لا ن الأمم لا تتقدم إلا بالعلم وبالشباب المتعلم ، فإذا كان شبابها لا يحصل على الشهادات العلمية إلا بالغش ، فقل لي بربك : ماذا سوف ينتج لنا هؤلاء الطلبة الغشاشون ؟ ما هو الهم الذي يحمله الواحد منهم ؟ ما هو الدور الذي سيقوم به في بناء الأمة ؟ لا شيء ، بل غاية همه ؛ وظيفة بتلك الشهادة المزورة يأكل منها قوته و رزقه . لا هم له في تقديم شيء ينفع الأمة ، أو حتى يفكر في ذلك . و هكذا تبقى الأمة لا تتقدم بسبب أولئك الغششة بينها . و نظرة تأمل للواقع ترى ذلك واضحا جليا ، فعدد الطلاب المتخرجين في كل عام بالآلاف و لكن قل بربك ما نسبة منهم يخترع لنا ، أو يكتشف ، أو يؤلف ويبدع، أو يقدم مشروعا نافعا للأمة ، قلة قليلة تعد على رؤوس الأصابع .
- أن الغاش سيتولى غدا منصبا وسوف يمارس غشه للأمة ، بل ربما علّم طلابه الغش .
- أن الذي يغش سوف يرتكب عدة مخالفات منها السرقة ، و الخداع ، والكذب، والارتشاء… وأعظمها الاستهانة بالله ، و ترك الإخلاص ، و ترك التوكل على الله .. – ثم إن الوظيفة التي سيحصل عليها بهذه الشهادة المزورة ، أو التي حصل عليها بالغش سوف يكون راتبها حراما ، وأيما جسد نبت من حرام فالنار أولى به .