رمضان شهر التربية والسلوك للدكتور محمد كنون الحسني
رمضان شهر التربية والسلوك للدكتور محمد كنون الحسني
رمضان شهر التربية والسلوك
لقد جعل الله سبحانه وتعالى لنا في حياتنا محطات للتدبر والتفكر , والتوبة والمغفرة, والعودة إلى النفس ومحاسبتها على ما بدر منها, وتربيتها على السلوك الحسن والسيرة المثلى, ففي الحديث ” الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر” فبحلول موعد الصلاة تحل محطة من محطات المغفرة والرضوان , وموعد مع النفس لمحاسبتها على فعلها وتذكيرها بما أمرها الله به ونهاها عنه, ومناسبة للتوبة وطلب العفو من الله على ما صدر من الإنسان من هفوات وزلات, يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ” إنما مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار على باب أحدكم يغتسل فيه خمس مرات ماذا يبقى من درنه” فإذا كان المرء يغتسل من ذنوبه ويتطهر من آثامه ويجدد إيمانه ويقينه في الله خمس مرات في اليوم فلا خوف عليه ما لم يرتكب الكبائر .
وفي كل أسبوع تحل محطة جديدة من محطات العفو والرحمة والغفران, ومناسبة لعودة الإنسان إلى نفسه وربه, يحل يوم الجمعة التي نجتمع فيها للصلاة والاستماع إلى خطبة الإمام المذكرة بما أمرنا الله به وبما نهانا عنه, وقد جعل الله سبحانه وتعالى هذا اليوم مناسبة لاجتماع المسلمين وتوحيد صفهم وغسل درنهم, وإحياء صلة الرحم فيما بينهم, فهذا الأمر السماوي بالصلاة جماعة هذا اليوم إنما هو في الحقيقة أمر ينطوي على كثير من المعاني والعبر, منها التواصل والتراحم والتآخي والتضامن والمساواة بين المسلمين, وقد خص الله هذا اليوم بساعة مباركة يستجيب فيها دعاء كل عبد توجه فيها إلى ربه طالبا حاجته, ففي الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه وأشار بيده يقللها.
وفي كل سنة تحل محطة أخرى أعظم وأجل, وأرحب وأوسع, يحل شهر رمضان الذي قال فيه الحق سبحانه وتعالى:” شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان” وقال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم:” أتاكم رمضان شهر مبارك, فرض الله عز وجل عليكم صيامه, تفتح فيه أبواب الجنة, وتغلق فيه أبواب الجحيم, وتغل فيه مردة الشياطين, فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم” رواه مسلم. أكرمه الله بأن أنزل فيه القرآن هذا الفيض الرباني الذي ملأ أطباق الأرض علما وحكمة, وعم العالم عدلا ومساواة ورحمة, شهر تفتح فيه أبواب خزائن الرحمة والجود والإحسان, وتقبل فيه ليالي الصفح والتجاوز والغفران, فطوبى لمن تعرض فيه لنفحات الرب وأخلص الطاعة لله بالجوارح والقلب وترفع عما يأتيه صرعى الشهوات وقتلى الغرور, فكم لله في هذا الشهر من نفحات كم تنهمر فيه على القلوب المستعدة صيوب الرحمات وتغفر فيه للتائبين مساوئ وزلات .فإذا أردت أن تخرج من هذا الشهر مغفورا لك فعليك بأمور ثلاثة:
- عبادة الله حق قدره وتعظيمه واستحضاره في كل وقت وحين, والتوبة إليه ومراجعة النفس فيما أقبلت عليه وخاضت فيه طوال السنة, وأن تصوم صوم المؤمنين المحتسبين, عن نية خالصة في الفعل ورغبة صادقة في الثواب والجزاء, قال صلى الله عليه وسلم: ” من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له” , وعن حرص في التحقق من نيل المنى وبلوغ مرتبة التقوى, وعن صدق التوجه في التأسي بالحبيب المصطفى واتباع سبل السادة الفضلاء العدول الخيرة أولي العلم والنهى, قال تعالى: ” فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون”. مع الحرص على الواجبات والسنن من نية وإمساك وتعجيل الفطور وتأخير السحور, وقيام الليل , وحضور صلاة الجماعة في كل وقت , وإحياء ليالي رمضان بالصلاة وقراءة القرآن والذكر, والاجتهاد أكثر في العشر الأواخر منه, وأداء زكاة الفطر.
- قراءة القرآن الكريم وحضور مجالس العلم والتعلم والحرص على التعلم والاستفادة, ففي الحديث الشريف: ” ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده” ففي هذا الحديث بيان لفضل العلم والتعلم , وإشارة إلى مكانة العلم ومجالسه عند الله, وإذا كان لفظ الحديث يشير إلى تلاوة كتاب الله ومدارسته فإن مفهومه يوحي بأن هذا الفضل وهذه الدرجة حاصلة لكل متعلم متدبر لأن جميع العلوم نجد أصلا لها في القرآن, ومدارسة القرآن تعني تدارس علومه وفهومه وما أشار إليه أو أمر بالتدبر والتفكر فيه.وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكثر في هذا الشهر من قراءة القرآن وينزل عليه جبريل في كل ليلة لهذا الغرض, ففي الحديث: ” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس, وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن.
الالتزام بالأخلاق الحسنة والمعاملة الطيبة خلال هذا الشهر, فرمضان مدرسة سلوكية تعلمنا الصبر على الجوع والعطش وكبح جماح الشهوة من طلوع الشمس إلى غروبها, ويطلعنا على معاناة الفقير المحتاج طيلة السنة حيث يجوع ولا يجد طعاما ويعطش ولا يجد ما يروي به ظمأه, ويعرى ولا يجد ما يستر به نفسه ويحميها من البرد والمطر, ويعلمنا كيف نحافظ على حدود الله ونحفظ أمانته فندخل بيوتنا ونقفل علينا أبوابنا ونجد الماء والطعام والزوجة، فنعرض عن كل ذلك امتثالا لأمر الله وحفاظا على أمانته, وبالإضافة إلى هذا وذاك أمرنا الحق سبحانه وتعالى بالتخلق بالخلق الحسن في هذا الشهر والتدرب على هذا الخلق ليكون دأبنا وشعارنا وخلقنا طيلة السنة, يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ” الصيام جنة , فإذا كان صيام أحدكم فلا يرفث ,ولا يصخب, فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم. وقال أيضا: “إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم وتجنب أذى الخادم وليكن عليك وقار وسكينة, ولا تجعل يوم فطرك كيوم صومك” ففي هذه الأحاديث وغيرها إشارات واضحة إلى أن رمضان ليس شهر صيام وقيام فحسب بل هو أيضا شهر أخلاق ومثل عليا يربي عليها الإسلام أبناءه ويدعوهم إلى التمسك بها, وجعل هذا الشهر محطة من محطات التعلم والتدرب على ذلك , فلا صيام لكاذب أو متكلم بالسوء في الناس, أو مفسد لما بينهم من ود وأخوة, أو شاهد زور, أو مؤذ للناس بلسانه أو بيده أو … لأن الدين الإسلامي هو دين العبادة والعلم والأخلاق فمن فرط في شيء من ذلك فقد فرط في ركن من أركان هذا الدين.وقد جعل الحق سبحانه وتعالى هذا الشهر مناسبة لمراجعة النفس وضبطها وتعلمها الأخلاق الحسنة وتدريبها على ذلك حتى تمضي عليه طول السنة ومدى الدهر تمثل الإسلام خير تمثيل وعطي للعالم أجمل صورة عن الإسلام وأخلاق أهله.