العناية بالبيئة وحمايتها مقصد شرعي وسلوك حضاري للدكتور محمد كنون الحسني

العناية بالبيئة وحمايتها مقصد شرعي وسلوك حضاري للدكتور محمد كنون الحسني

العناية بالبيئة وحمايتها مقصد شرعي وسلوك حضاري

حديثنا اليوم عن البيئة وضرورة العناية بها والحفاظ عليها تذكيرا ببعض ما جاء به ديننا الإسلامي في هذا الشأن إذ الموضوع أصيل ومكين في شريعتنا الغراء التي تنظر إلى البيئة من جانبين اثنين:

أما الجانب الأول فهو أن الإنسان جزء من البيئة لأن الله عز وجل خلق الإنسان من الأرض وسيرده إليها كما قال سبحانه: (( وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الارْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمُ إِخْرَاجاً ))، وجعلها مسخَّرةً له في حياته، بل وسخَّر له كل ما في الكون كله مصداقا لقوله جلت قدرته: (( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ))، وحَدَّدَ سبحانه الفِعْـلَ المُخْتَصَّ بِالإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا بِثَلاَثَةِ أَفْعَالٍ ذَكَرَها فِي كِتَابِهِ ، وَهِيَ:

أولا: عِمَارَةُ الأَرْضِ المَذْكُورَةُ فِي قَولِهِ عز وجل: ((وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا))،

ثانيا: َالعِبَادَةُ المَذْكُورَةُ فِي قَولِهِ تَعَالَى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ))،

ثالثا: َالخِلاَفَةُ المَذْكُورَةُ فِي قَولِهِ سبحانه: ((وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الارْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)). وَعَلِيهِ فَإِنَّ العِمَارَةَ وَالعِبَادَةَ وَالخِلاَفَةَ أَفْعَالٌ مُتَكَامِلَةٌ ، هَيَّأ اللهُ جل في علاه لِلإِنْسَانِ أَسْبَابَهَا، وَأَمَرَهُ بِاكتِشَافِ القَوانِينِ التِي تَضْمَنُ استِقَامَتَها، فَكَانَ تَسْخِيرُ اللهِ مَخْلُوقَاتِهِ لِلإِنْسَانِ، وَأمَرَهُ سبحانه وتَعَالَى أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ وَيتَأمَّلَهُ ليصل إلى عظمة الخالق وَيَكْتَشِفَ السُّنَنَ الإِلَهِيَّةَ لاستِقَامَةِ المخلوق وَاكتِمَالِه، قَالَ تَعَالَى: ((فَلْيَنْظُرِ الانْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، إنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً، ثُمَّ شَقَقْنَا الارْضَ شَقّاً، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً، وَعِنَباً وَقَضْباً، وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً، وَحَدَائِقَ غُلْباً، وَفَاكِهَةً وَأَبّاً، مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ )) ،

أما الجانب الثاني فهو الجانب الجمالي لهذه البيئة  مصداقا لقوله  جَلّ شَأْنُهُ: ((وَالانْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَاكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمُ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الانْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ))، هذا الجمال الذي يشمل:

أولا: جمال النجوم كما قال سبحانه (( إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ))

ثانيا: جمال النبات لقوله تعالى (( أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ ))

ثالثا: جمال الحيوان كما قال سبحانه: (( وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ))

رابعا: جمال الإنسان لقوله تعالى: (( لَقَدْ خَلَقْنَا الانْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ )).

فالجَمَالُ فِي الخَلْقِ رغم كونه مَصلَحَة كَمَالِيَّة فقد اعتَنَى بِهَا الإِسْلاَمُ، فَمِنْ بَابِ أَولَى اهتِمَامُهُ بِمَا هُوَ ضَرُورِيٌّ لِلْحَيَاةِ فِي هَذِهِ البِيئَةِ (من عناية وصيانة ومحافظة) الذي هو آكَدُ فِي التَّكْلِيفِ مِنْ حِفْظِ الجَمَالِ الطَّبِيعِيِّ.

وَنِعْمَةُ الجَمَالِ فِي البِيئَةِ تُرَتِّبُ عَلَينَا كذلك وَاجِباً شَرْعِيّاً نَحْوَها، وَهُوَ أَنْ نَسْعَى لاستِدَامَةِ هَذَا الجَمَالِ فِي الخَلْقِ، وَذَلِكَ بِتَعْمِيمِ الخُضْرَةِ وَمُكَافَحَةِ التَّصَحُّرِ وَتَنْمِيَةِ المَوَارِدِ الطَّبِيعِيَّةِ مِنْ خِلاَلِ الزِّرَاعَةِ والتَّشْجِيرِ وعدم إضرام النار في الغابات والحدائق…

ويمكن تقسيم البيئة وفق التوصيات الدولية إلى ثلاثة عناصر هي:

1ـ البيئة الطبيعية:

وتتكون من أربعة نظم مترابطة ترابطاً وثيقاً هي: الغلاف الجوي، والغلاف المائي، واليابسة، والمحيط الجوي، بما تشمله هذه الأنظمة من ماء وهواء وتربة ومعادن، ومصادر للطاقة بالإضافة إلى النباتات والحيوانات، وهذه جميعها تمثل الموارد التي أتاحها الله تعالى للإنسان كي يحصل منها على مقومات حياته من غذاء وكساء ودواء ومأوى.

2ـ البيئة البيولوجية:

وتشمل الإنسان “الفرد” وأسرته، وكذلك الكائنات الحية في المحيط الجوي، وتعد البيئة البيولوجية جزءاً من البيئة الطبيعية.

3ـ البيئة الاجتماعية:

ويقصد بالبيئة الاجتماعية ذلك الإطار من العلاقات الذي يحدد ماهية علاقة حياة الإنسان مع غيره، ذلك الإطار من العلاقات الذي هو الأساس في تنظيم أي جماعة من الجماعات سواء بين أفرادها بعضهم ببعض في بيئة ما، أو بين جماعات متباينة أو متشابهة معاً وحضارة في بيئات متباعدة، وتؤلف أنماط تلك العلاقات ما يعرف بالنظم الاجتماعية، واستحدث الإنسان خلال رحلة حياته الطويلة بيئة حضارية لكي تساعده في حياته فعمّر الأرض واخترق الأجواء لغزو الفضاء.

وإِذَا نَظَرنا فِي هَذِهِ النِّعَمِ وَرَأَينا صَلاَحَهَا واستِقَامَتَها فَعَلَيْنا أَنْ نشْكُرَ اللهَ عَلَيْهَا، امتِثَالاً لِقَولِه تَعَالَى : ((وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الارْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ)) ، وَعَلَيْنا أَيْضاً أَنْ نُحَافِظَ عَلَى هَذَا الصَّلاَحِ وَالكَمَالِ فِيهَا، وَنحْذَرَ مِنَ العُدْوَانِ وَالعَبَثِ وَالتَّغْيِيرِ فِي الخَلْقِ الذِي يَؤُولُ إِلَى الفَسَادِ، قَالَ تَعَالَى: ((وَلا تُفْسِدُوا فِي الارْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)) ، والفَسَادُ هُنَا مَعنَاهُ عَامٌّ شَامِلٌ، فَمِنْهُ العَبَثُ بِالطَّبِيعَةِ وَالبِيئَةِ وَتَغْيِيرُ طَبِيعَتِها وَتَوظِيفُ الأُمُورِ فِي غَيْرِ مَا خُلِقَتْ لَه ، لِذَلِكَ أَخْبَرَنا اللهُ فِي كِتَابِهِ العزيز أَنَّ الفَسَادَ الذِي يَرَاهُ الإِنْسَانُ فِي الطَّبِيعَةِ بَرَّاً وَبَحْراً لَمْ يَأْتِ إِلاَّ بِفِعْـلِ الإِنْسَانِ نفسه، قَالَ تَعَالَى: ((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ))

 لَقَدْ جَاءتِ الشَّرِيعَةُ الإِسْلاَمِيَّةُ بِأَحكَامِهَا المُتَنَوِّعَةِ لِرِعَايَةِ مَصلَحَةِ الإِنْسَانِ وَحِفْظِ نَفْسِهِ وَدِينِهِ وَعَقْلِهِ وَمَالِهِ وَعِرْضِهِ، وَعَلَيْهِ فَكُلُّ شَيءٍ فِي هَذَا الكَوْنِ مُسَخَّرٌ لِلإِنْسَانِ، وَأَيُّ فِعْـلٍ يُفْسِدُ هَذَهِ المُسَخَّرَاتِ وَيُخِلُّ بِوَظِيفَتِها ويُعَطِّلُ فَائدَتَها إِنَّمَا هُوَ تَعَدٍّ عَلَى قَوانِينِ الخَلْقِ الإِلَهِيِّ وتَعَدٍّ عَلَى مَصلَحَةِ الإِنْسَانِ التِي رَعَاهَا اللهُ فِي أَحْكَامِهِ، وعندَ التَّأمُّلِ فِي النُّصُوصِ الدينية وَالأَحكَامِ الشرعية وَالآدَابِ الإِسْلاَمِيَّةِ نَجِدُ أَنْمَاطاً وَنَمَاذِجَ مِنَ التَّكَالِيفِ تَتَّجِهُ مُبَاشَرَةً لِلاهتِمَامِ بِالبِيئَةِ وَرِعَايَتِهَا وَالمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَهِيَ أَحكَامٌ لاَ تَقِفُ عِنْدَ تَحْرِيمِ العُدْوَانِ عَلَى البِيئَةِ وَالمَخْلُوقَاتِ وَالمُسخَّرَاتِ فقط، وإِنَّمَا  تُوجِبُ عَلَى الإِنْسَانِ فِعْلَ مَا يَصُونُ بِهِ هذه البِيئَةَ وَيَحفَظُ طَبِيعَتَهَا وَسُنَّةَ اللهِ فِيها.

لقد حث الإسلام على الطهارة، ونهى عن تلويث البيئة وإفسادها؛ من ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن البصاق في الأرض، لما له من مضار صحية ونفسية، تخالف الذوق، وتثير الاشمئزاز. وكذلك نهى الإسلام عن التغوط تحت الأشجار المثمرة، والتبول في المياه الراكدة والجارية، وعلى الطرقات حماية للبيئة، وحفظا للطهارة والصحة لما روي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه: [ أنه نهى صلى الله عليه أن يتغوط الرجل على شفير ماء يستعذب منها، أو نهر يستعذب، وتحت شجرة فيها ثمرتها، وأن يبول أحد في الماء الراكد].

وجَاءَ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  مَرَّ بِشَاةٍ مَيْـتَةٍ فَقَالَ: هَلاَّ انْتَفَعتُمْ بِإِهَابِها؟ قَالُوا: إِنَّهَا مَيْـتَةٌ، قَالَ: إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا))، وَفِي هَذَا تَشْجِيعٌ عَلَى الانْتِفَاعِ بِكُلِّ شَيءٍ فِي الطَّبِيعَةِ يُمكِنُ الانْتِفَاعُ بِهِ وَعَدَمِ تَركِهِ لِلتَّلَفِ، وَهَذا أَصْـلٌ فِي الحَثِّ عَلَى الصِّنَاعَاتِ التَّحْوِيلِيَّةِ التِي تُقلِّلُ التَّلَوُّثَ، وَتَحدُّ مِنْ تَكَاثُرِ النفَايَاتِ الضَّارَّةِ بِالبِيئَةِ.

وكذلك حث صلى الله عليه وسلم على حماية البيئة ومكوناتها، كان عليه الصلاة والسلام يوصي الجيوش بأن: لا تقتلن امرأة، ولا صغيرًا رضيعًا، ولا كبيرًا فانيًا، ولا تحرقن نخلاً، ولا تقلعن شجرًا، ولا تهدموا بيوتًا (رواه مسلم)، هذا في الحرب ومن باب أولى في السلم.

 ويمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بصحابي يتوضأ، فقال له:  “ما هذا السرف؟!” قال: يا رسول الله أفي هذا إسراف؟! قال: نعم ولو كنت على نهر جاري (رواه ابن ماجة)، ويقول أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- موصيا: ولا تقطعن شجرا مثمرا، ولا تخربن عامرا، ولا تعقرن شاة، ولا بعيرا إلا لمأكله”. وتأكيد معنى البيئة الجميل الذي حث عليه ديننا الحنيف، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: “رأيت رجلا يتقلب في الجنة في غصن شوك أزاله من الطريق كان يؤذي الناس” (رواه مسلم).

 ويفتقد صلى الله عليه وسلم امرأة سوداء كانت تقوم على نظافة المسجد، فسأل عنها فأخبروه بأنها ماتت، فقال: دلوني على قبرها ثم ذهب وصلى عليها، ودعا لها، وهي إشارة لتعظيم دورها في النظافة، ولا نستطيع حصر الأحاديث التي تعظم دور وأجر من يميط الأذى، ويحرص على النظافة الشخصية والعامة.