البيئة تجل للجمال والجلال للدكتور محمد كنون الحسني
البيئة تجل للجمال والجلال للدكتور محمد كنون الحسني
البيئة تجل للجمال والجلال
ثقافةُ الجمالِ في الإسلامِ ليست كما يظن البعض منَ المحسناتِ والمكملاتِ، فالإسلامَ أولاها عنايةً بالغة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وكل من استقرأ نصوص الوحي يرى من معالمِ الجمالِ ما يسلُب الألبابَ، ويفتحُ الأبوابَ، ويجعل الحياة كُلَّها جمالٌ ونقاءٌ ورونقٌ وصفاءٌ..
فالوحي أصل لجمال الروحِ وجمال النفسِ وجمال الجسدِ وجمال البيتِ وجمال البيئةِ وجمال الهيئةِ، وجمال الفكرِ…إنها النظافةُ والطهارةُ في الأنفسِ وفي المساجدِ وفي الملابسِ وفي الطرقاتِ، وفي المحلاتِ والمؤسساتِ العامةِ والخاصةِ، فأنتَ حينماَ تأتي إلى أحدِ هذهِ الأماكنِ أو الطرقاتِ فتراها نظيفةً جميلةً، تأتي إليكَ رسائلُ صامتةٌ تحفِّزُ الجانبَ الإيجابيَّ فيكَ فتجعلُكَ ذلك الإنسان المعطاء النافع لنفسه ولغيره ولبده ولسائر المخلوقات، السعيد المطمئن في حياته.
إن جمال الطبيعةِ التي خلقَهاَ اللهُ، أفسدَهُ الناسُ اليوم بسوءِ سلوكِهِم، وبعدَمِ اكتراثِهِم، فعندما تذهبُ إلى الجبالِ الجميلةِ، والشعابِ النظرةِ، تجدُ بطحاءَها قد تكدَّرتْ بمخلفاتِ الناسِ، وترى بعينِكَ سوءَ التعامُلِ معَ الطبيعةِ، بل حتى في شوارِعِنا علبَ المشروباتِ مرمية وزجاجَ النفايات والمخلفاتِ في كلِّ مكانٍ وعلى كل طريق، فمتى نرتقي بأفهامِنا وسلوكياتِنا إلى مفهومِ ثقافةِ الجمالِ في الإسلام.
وإن هذا والله لمن الفساد في الأرض قال تعالى : (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)الأعراف. وقال عليه السلام ( كلُّ سلامى منَ الناسِ عليهِ صدقةٌ كلُّ يومٍ تطلعُ فيه الشمسُ، تعدِلُ بينَ الاثنينِ صدقةٌ، وتعينُ الرجلَ في دابتِهِ فتحمِلُهُ عليهاَ، أو ترفعُ لهُ عليها متاعَهُ صدقةٌ، والكلمةُ الطيبةُ صدقةٌ، وكلُّ خطوةٍ تمشيها إلى الصلاةِ صدقةٌ، وتميطُ الأذى عن الطريقِ صدقةٌ) متفق عليه.
الجمال مطلوبٌ في كلِّ شيءٍ، في أخذِكَ وعطائِكَ، وبذلِكَ وسخائِكَ، وصبرِكَ وهجرِكَ، قال تعالى (فصبرٌ جميلٌ ) يأمرُ اللهُ الصابرينَ بأنْ يكونَ في صبرِهم جمالٌ فيتحلونَ بأجملِ معاني الصبرِ بلا شكوى، وهذا ما فعلهُ نبي الله يعقوبُ عليه السلام حينَ فقدَ قرةَ عينهِ يوسُفَ عليه السلام فكانت ثمارُ هذا الصبرِ الجميلِ أنْ أعادَ اللهُ إليهِ إبنَهُ وردَّ له بصرَهُ، وحتى الهجرَ يجبُ أنْ يكونَ جميلاً قال تعالى ( واصبرْ على ما يقولونَ واهجرهم هجراً جميلاً ) لكي يكونَ في جمالِ هجرِكَ متَّسعاً يستوعبُ الخيرَ والإصلاحَ والنجاحَ والفلاحَ . ولم يكن ذلكَ في الهجرِ فقط بل حتى في الطلاقِ الذي هو أبغضُ الحلالِ عندَ اللهِ قالَ اللهُ فيهِ: ( يا أيها الذينَ آمنوا إذا نكحتمُ المؤمناتِ ثم طلقتموهُنَّ من قَبلِ أن تمسوهُنَّ فما لكم عليهِنَّ من عدةٍ تعتدونها فمتعوهُنَّ وسرحوهُنَّ سراحاً جميلا)، فأمرَ اللهُ أنْ يكونَ هذا الفراقُ فيهِ جَمالٌ وإحسانٌ فتخرجُ هذه المرأةُ من مُطلِّقِها وتفارقُهُ راضيةً، قد أعطاها حقَّهاَ وأرضاهاَ بشيءٍ يذيبُ عنها ألمَ الفراقِ وحسرةَ الطلاقِ فتذكرُهُ ويذكرُها بالخيرِ، وليسَ ذلكَ في الطلاقِ فحسب بلْ في أيِّ فضٍّ لشراكةٍ أو إنهاءٍ لتعامُلٍ، ينبغي أنْ يكونَ فيهِ الجمالُ الذي يليقُ بأمةِ الإسلامِ وينبغي أنْ لا يخرجَ من هذا الجمالِ إلى الخصومةِ والقطيعةِ والمحاكمِ، فأينَ هذا الجمالُ أيها المسلمونَ؟ ولقد تجاوزَ هذا الجمالُ حتى شمِلَ العقوبةَ والعفوَ والصفحَ ، قال تعالى ( فاصفح الصفحَ الجميل) أمرَ اللهُ من يعفوَ عنَ الآخرينَ أنْ يكونَ في عفوِهِ وصفحِهِ رونقاً وجمالاً وحسنا في الكلام الطيب الذي يشرحُ الصدورَ ويرتقُ اللحمةَ ويكونُ أدعى للتقاربِ والمودةِ والمحبةِ بينَ المسلمينَ فلا يعلو صفحُ المسلمِ على ضعفِ أخيهِ ولا يمسُّ كرامتَهُ .
إن من تَصَفّح القُرآن الكريم يَجِد سُوَراً تَحْمِلُ أَسْمَاءَ الظَّوَاهِرِ وَالمَخْلُوقَاتِ السَّمَاوِيَّةِ كَـالرَّعْدِ وَالقَمَرِ وَالشَّمْسِ وَالنَّجْمِ وَالبُرُوجِ…وَمُكَوِّنَاتِ الزَّمَانِ كَـاللَّيلِ وَالفَجْرِ وَالضُّحَى… وَبَعْضِ الحَيَوانَاتِ كَـالبَقَرَةِ وَالأَنْعَامِ وَالنَّحلِ وَالنَّملِ وَالعَنْكَبُوتِ وَالفِيلِ…هَذَا فَضْلاً عَمَّا يَرِدُ فِي الآيَاتِ القُرآنِيَّةِ مِنْ حَدِيثٍ مُطَوَّلٍ عَنِ الجِبَالِ وَالبِحَارِ وَالأَنْهَارِ وَالأَشْجَارِ وَأَنْوَاعِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ العَنَاصِرِ البِيئِيَّةِ التِي خَلَقَهَا اللهُ، وعَلَيْهِ فَالبِيئَةُ حَاضِرَةُ الذِّكْرِ فِي القُرآنِ بِقُوَّةٍ وَشُمُولِيَّةٍ لِجَمِيعِ عَنَاصِرِهَا، وَمَا ذِكْرُهَا إِلاَّ لاكتِشَافِهَا وَالاعتِبَارِ بِهَا وَالتَّأمُّلِ فِي خَلْقِهَا واكتِشَافِ قَوَانِينِهَا، وَإنَّ أَهمَّ مَا يَلفِتُ النَّظَرَ فِي حَدِيثِ القُرآنِ عَنْ هَذِهِ الأَشْيَاءِ ذِكْرُهُ لِلْوَظِيفَةِ الأَكْمَلِ لَهَا، وَهِيَ دَوْرُهَا الجَمَالِيُّ، قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) الكهف وَقَالَ جَلّ شَأْنُهُ: (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) النحل|.
فَالجَمَالُ فِي الخَلْقِ إِنَّمَا هُوَ مَصلَحَةٌ كَمَالِيَّةٌ اعتَنَى بِهَا الإِسْلاَمُ، فَمِنْ بَابِ أَولَى اهتِمَامُهُ بِمَا هُوَ ضَرُورِيٌّ لِلْحَيَاةِ فِي هَذِهِ البِيئَةِ، فَحِفْظُ التَّوَازُنِ البِيئيِّ لِلْخَلْقِ الإِلَهِيِّ كَمَا أَقَامَهُ اللهُ إِنَّمَا هُوَ عين الجمال والكمال ومناط تكليفنا من ربنا ذي الجلال. وَنِعْمَةُ الجَمَالِ فِي البِيئَةِ وَالطَّبِيعَةِ هَذِهِ تُرَتِّبُ عَلَينَا وَاجِباً شَرْعِيّاً نَحْوَها، وَهُوَ أَنْ نَسْعَى لاستِدَامَةِ هَذَا الجَمَالِ فِي الخَلْقِ، وَذَلِكَ بِتَعْمِيمِ الخُضْرَةِ وَمُكَافَحَةِ التَّصَحُّرِ وَتَنْمِيَةِ المَوَارِدِ الطَّبِيعِيَّةِ… وَالأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ صَرِيحَةٌ فِي الحَثِّ عَلَى الزِّرَاعَةِ وَالغَرْسِ، فَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْساً، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعاً، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ))، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ ثَوَاباً دَائماً عَلَى الغَرْسِ، أَيّاً كَانَ نَوْعُهُ وَأيَّاً كَانَ المُستَفِيدُ مِنْهُ، فَالغَرْسُ وَالخُضْرَةُ خَيْرٌ فِي كُلِّ حَالٍ يَستَفِيدُ مِنْهُ الإِنْسَانُ وَالحَيَوانُ، وَيَحفَظُ التَّوَازُنَ فِي الطَّبِيعَةِ، وَعَنْ أَنَسٍ أَيْضاً قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنِ استِطَاعَ ألاَّ تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَها فَلْيَفْعَلْ)) وَفِي هَذَا الحَدِيثِ حَثٌّ لِلْمُسلِمِ عَلَى استِمْرَارِ العَمَلِ بِمَا يُحْيِي البِيئَةَ، وَأَنْ يَحْرِصَ عَلَى ذَلِكَ بِغَضِّ النَّظَرِ عَمَّنْ يَجْـنِي ثَمَرَتَهُ وَنَتِيجَتَهُ، فَالغَرْسُ شَأْنٌ يَعْنِي النِّظَامَ البِيئيَّ، وَالحِفَاظُ عَلَيْهِ اليَوْمَ هُوَ حِفَاظٌ عَلَى حَيَاةِ الأَجْيَالِ القَادِمَةِ، وَتَدْمِيرُهُ عُدْوَانٌ قَدْ يُصِيبُ الإِنْسَانَ اليَوْمَ فَضْلاً عَنِ الأَجْيَالِ اللاَّحِقَةِ. وكل هذا جاء به الإسلام في قالب من الجمال والكمال حتى نُظْهِرَ جَمَالَ خَلْقِ اللهِ كَمَا أَرَادَهُ سُبْحَانَهُ، وَلْتَكُنْ يَدُ كُلٍّ مِنَّا شَرِيفَةً مَأْجُورَةً على كل حسنة تجاه النفس والغير والكون، ومتمثلة للجمال والكمال بكل سلوك إيجابي تجاه البيئة ، ومجسدة للجلال الإلهي بالحفاظ على التوازن البيئي كما خلقه الله وذرأه وفطره .