النبات والثمار في الإسلام للدكتور محمد كنون الحسني
النبات والثمار في الإسلام للدكتور محمد كنون الحسني
النبات والثمار في الإسلام
كم لله -عز وجل – من حكمة بالغة وقدرة شاملة في خلقه وفي كونه، وكم له من آيات باهرات ومعجزات ظاهرات في أدنى مخلوق في أرضه وسمائه، فلقد أقام المولى سبحانه الكون على نظام دقيق محكم ، خلق فيه كل شيء فأحكم وأبدع .
ومن مخلوقات الله عز وجل التي تجلت فيه القدرة الربانية، النبات والزرع، ففيه من الآيات والمعجزات الهائلة التي يتعين على كل مسلم صادق أن يقف عندها متأملا متدبرا، معترفا بعظمة الواحد الأحد وبقدرته مقرا.
لقد اهتم الإسلام بالنبات، وعرف قيمته ورفع قدره، فذُكر في القرآن بمشتقاته ومنتجاته المختلفة في مواضع كثيرة من كتاب الله، ختمها الله عز وجل كلها بالدعوة للاعتبار والتفكر، وإعمال العقل والتذكر.
والله عز وجل قد أعطانا العبرة والعظة من خلق النبات، وذلك في آيات كثيرة من كتابه الحكيم، فحديث القرآن عن النبات حديثٌ واسعٌ وكبيرٌ، زاخرٌ بالدلائل والإشارات لأولي النهى والأبصار، فالقرآن يتحدث عن النبات ورحلته العمرية من العدم إلى الوجود إلى العدم، وعلاقته بالكون وسائر المخلوقات من إنسان وحيوان، ليعطينا الكثير من المعاني والدلالات والعظات عن خلق النبات، مع ربط هذه المعاني بباقي منظومة الكون والخلق بكل مفرداته من إنسان وحيوان وجامد.
هذا وإن المتدبر لكلام رب العالمين يدرك أن النبات والثمار ليست كائنات فحسب، وإنما هي مخلوقات ما خلقها الله إلا للإنسان {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} البقرة. وقد ضمنها الله فوائد روحية يسترشد بها العبد في طريقه إلى ربه، وأخرى مادية يتقوى بها على طاعة مولاه.
- إثبات التوحيد: أيها الإخوة الكرام لو لم يكن للنبات فضل وشرف إلا أن أثبت الله به وحدانيته وبرهن به على قدرته لكفاه فضلا وشرفا {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} النمل .
- البرهنة على البعث :يعتبر الإيمان بالبعث من القضايا الأساسية التي جاء القرآن الكريم لتثبيتها في القلوب وترسيخها في النفوس ، خاصة القرآن المكي ، ولم يكن هناك مثل أقرب إلى العقول التي اعتبرت البعث أمرا غير ممكن إلا النبات والثمار، فقال العزيز الغفار : {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} الحج .
- تقريب صورة الجنة إلى أذهان الراغبين: ولذلكم حين وصف الله نعيم الجنة التي بشر بها المؤمنين وصفها ثمارها بالشبه بثمار الدنيا فقال سبحانه: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} البقرة .
- بيان حقيقة الدنيا واستصغارها :وقد يضرب الله مثلا للحياة الدنيا التي تستهوي العقول والأفئدة بالأرض المخضرة نباتا وثمارا وبعد حين تصبح هشيما تذروه الرياح فيقول جل جلاله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} يونس . ويقول تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} الكهف.
- التبصر والتدبر: وبعبارة القرآن {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى} فالخالق بديع السماوات والأرض جعل النبات والثمار باختلاف ألوانها وأذواقها رسالة توقظ القلوب من غفلتها وتنبه العقول من سباتها قال جل في علاه: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} النحل.
- تعظيم الله واستجلاب شكره: ولأن الله يحب الشكر من عبده ويجزي عليه فقد امتن على عباده بنعمة النبات والثمار مذكرا إياهم بهذه النعمة التي لازمت الإنسان منذ وجوده الأول فقال: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ}.يس. وقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُون} يس.
وكما أن للنبات والثمار فوائد روحية لها أيضا فوائد مادية حسية، ومن هذه الفوائد:
- استمتاع النفس بجمال الأرض: فإذا كان الحق سبحانه جعل النجوم زينة للسماء {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} الصافات. فقد جعل الأرض مزينة بما أنبت فيها من كل زوج بهيج، {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} الكهف. {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} وكل ذلك بإحكام ومقدار، كيف لا وكل ذلك من خلق الجميل الذي يحب الجمال، ومن صنع الذي وصف بالكمال والجلال، وهو الذي قال: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} الحجر.
- استمتاع الجسم بما يحتاجه من غذاء ودواء: إذ النبات والثمار هي التي جعلها الله سبحانه واسطة بين الابن (الإنسان) وبين الأم (الأرض)، قال جل ثناؤه وعظم عطاؤه: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الَارْضَ مِهَادًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوَا اَنْعَامَكُمُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} طه .
ولقد ذكر القرآن الكريم العسل الذي تجمع النحل مادته منتقية إياه بوحي الله من ثمار النباتات ورحيق أزهارها ما جعل الله فيه شفاء لعلل الإنسان ودواء لأسقامه فقال المنعم المتفضل: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ اَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} النمل.
واعتبارا لهذا كله فإن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتبرت تعهد الأرض غرسا وزرعا مكسبا للحسنات وصدقة من الصدقات، فقد أخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة”.
وفي مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أُكل منه له صدقة وما سرق منه له صدقة وما أكل السبع منه فهو له صدقة وما أكلت الطير منه فهو له صدقة ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة“. كما اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الغرس عملا لا يوقفه ولو قيام الساعة، فقد روى أحمد في المسند والبخاري في الأدب المفرد عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها“. وفي المقابل سمى الله تعالى الذين يهلكون الحرث والنسل بالمفسدين فقال تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ} البقرة.
كما توعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من يعتدي على نبات الأرض بغير حق بالوعيد الشديد ولو كانت سدرة كما روى أبو داوود بسنده عن عبد الله بن حبشي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار“. إنه عمل لا يقل عقابه عن الكبائر التي توعد الله عليها أصحابها بالنار يوم القيامة، يقول أبو داوود معلقا على هذا الحديث: من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم، عبثاً وظلماً بغير حق يكون له فيها، صوّب الله رأسه في النار.