الحــج : آداب وأحكام -1- للدكتور محمد كنون الحسني
الحــج : آداب وأحكام -1- للدكتور محمد كنون الحسني
الحــج : آداب وأحكام
ـ 1 ـ
يقول الحق سبحانه وتعالى: ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ )سورة آل عمران: الآية 96 ـ 97.
إن الدين الإسلامي دين اجتماعي يدعوا أتباعه دائما إلى التعارف والتساند والمحبة والتعاون، ويتوسل إلى ذلك بوسائل شريفة منها ترغيبهم في الاجتماع خمس مرات كل يوم وليلة وذلك في الصلوات الخمس، ومنها إلزامهم باجتماع أوسع من هذا كل أسبوع مرة وذلك في صلاة الجمعة، ومنها دعوتهم إلى اجتماع أعم وأتم من هذا وذاك، وذاك في عيد الفطر وعيد الأضحى من كل سنة، ومنها حثهم على اجتماع عالمي عام أظهر وأبهر من كل تلك الاجتماعات السابقة، وذلك في الحج، حيث نادى الله سبحانه وتعالى في الناس أن هلموا إلى أشرف بقعة من بقاع الأرض لتجتمعوا في صعيد واحد، على عبادة رب واحد، في مظهر من مظاهر الإسلام واحد، حتى يكون ذلك أبلغ في تعارفكم، وأعون على تساندكم، وأدعى إلى تقوية الروابط بين أممكم، وحتى تعلموا من طريق العمل كما علمتم من طريق النظر أنكم إخوة زالت من بينكم الفوارق الجنسية والإقليمية، وآخى بينكم الإسلام والإيمان، وإن باعدت بينكم الأمكنة والأزمان، وهنالك تتهيأ لكم الفرصة فتتحدثون فيما ينهضكم وتتفاوضون فيما يرفع من شأنكم، وتتعاقدون على الأخذ بناصر مظلومكم، وتقفون جبهة واحدة في وجه ظالمكم، فيكون لكم شأن أي شأن، وسلطان ياله من سلطان.
وفي الحج يقوم الإنسان وزملاؤه الحجاج من مختلف بقاع المعمور بتمثيل رواية مؤثرة ذات فصول رائعة فيها يتذكر الإنسان مستقبله الخالد من يوم مرقده إلى يوم مبعثه، يوم يحشر الخلق في صعيد واحد حفاة عراة، يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئد لله، فالحاج يخرج من بيته ويترك ماله وأهله وأحباءه، ويعيش بعيدا عن عاداته ومألوفاته متجردا من كل لباس وزينة إلا لباسا أشبه بالكفن، كاشفا رأسه مبقيا شعره وظفره، معرضا عن ترف الحياة وحياة الترف، ثم يقف جميع الحجيج على هذه الحال شعثا غبرا فوق جبل أجرد في يوم واحد وهم بين باك من ذنبه ضارع إلى ربه يخافون لا يدرون هل يقبلهم الله فيكون سعيهم مشكورا أو يرد عليهم حجهم فيكون مجهودهم هباء منثورا، أليست هذه هي رواية الآخرة، وفي كل فصل من فصولها درس بالغ به يسهل قياد النفس الجامحة حتى تعود من الحج طاهرة نقية كيوم ولدتها أمها، إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وفي الحج فائدة ثالثة، وهي تموين تلك الجيوش الحاشدة في قلعة الإسلام الأولى بلد الله الحرام الذي منه طلعت شمس الإسلام وفيه ولد وبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بما ينفقه الحجاج هنالك من صدقات ونذور وهدايا وأفدية وأجور وأثمان، أضف إلى ما سبق أن الحج يدرب الإنسان على خشونة السفر ويملي عليه درسا من حياة الاجتماع وواجبات الصحبة والعشرة، ويجعل كل حاج سفيرا لبلده ، ممثلا لمدينته وإخوانه من عشيرتهّ، مما يوجب عليه تمثيل أهله وبلده أحسن تمثيل في تصرفاته وتعاملاته وأخلاقه، قال تعالى مشيرا إلى تلك الحكم وأشباهها: ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ،فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) سورة الج، الآيات: 27 ـ 28 ـ .29 .
ولما كان الإسلام دين الدليل والإقناع شرح الله السر في اختيار البيت الحرام دون غيره ليكون موضعا لانعقاد هذا المؤتمر العام ، ومشعرا لأداء ذلك الفرض الهام فقال سبحانه: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) أي مكة المكرمة سميت بذلك من البك وهو الازدحام والقهر لأنها تزدحم بالحجيج ويقهر الله كل من أرادها بسوء، وقد اجتمعت في البيت الحرام مزايا لا تحصى ومآثر لا تستقصى، منها أنه أول مكان أعده الله لعبادته على وجه الأرض وقد جاء في الصحيحين أنه وجد قبل بيت المقدس بأربعين سنة ومنها أنه مبارك، أي عظيم النفع لمن قصده كثير الفائدة لمن زاره، ومن بركاته أن صلاة واحدة فيه تفضل مائة ألف صلاة فيما سواه، ومنها أنه هداية لرب العالمين من عهد إبراهيم وإسماعيل، بل ومن قبل ذلك العهد الكريم إلى يوم الناس هذا، فهو المتعبد الأول القديم الذي اهتدى به السلف الصالح واسترشد به الخلف اللاحق، ومنها أن فيه أيات بينات أي دلائل واضحات ناطقة بعظم قدرة الله وإبداعه، فيه مقام إبراهيم وهو حجر صلد كان يقوم عليه عند بنائه الكعبة، ألانه الله تعالى له حتى غاصت فيه قدماه إلى الكعبين، أليس ذلك آية من آيات القدرة الإلهية؟ ثم أليس حفظ هذا الأثر إلى اليوم آية أخرى، وإلا فأين نحن الآن من عهد إبراهيم وإسماعيل، إنها قرون وأجيال ثم قرون وأجيال أماتت المآثر وطمست الآثار.ومن المزايا التي خص الله بها هذا المقام أن من دخله كان آمنا، ثبت له ذلك الأمان من قديم الزمان، فكان الرجل يجترم الجريمة فيلتجئ إلى الحرم فلا يطلب حتى يخرج منه، وفي ذلك ترغيب للخلق أن يؤموا تلك البقعة وهم آمنون ، وقد ورد في تفسير هذه الآية : ومن دخله معظما له متقربا بذلك إلى الله تعالى كان آمنا من العذاب يوم القيامة.
فإذا كان الحج مؤتمرا عالميا لأبناء الإسلام فيجب على المسلمين أن يعطوا للآخر صورة مشرقة عن الإسلام وأهله، في نظافتهم ونظامهم وتسامحهم وتعاونهم وتعاطفهم، حتى يكونوا أهلا لما وصفهم به نبي الهدى صلى الله عليه وسلم حين قال: “مثل المومنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”، فالحج عبادة يمتحن الله سبحانه وتعالى فيها المسلمين في أخلاقهم وتعاملهم وتضامنهم فيما بينهم، إذ ليس الحج أركانا ومناسك فحسب، بل هو أخلاق ومعاملة وحسن سلوك، لهذا قال سبحانه وتعالى: ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ) سورة البقرة ، الآية 197 .ففي الحج تلتقي أمم مختلفة وتتعايش عادات متباعدة وطباع متناقضة، وتجتمع ملايين البشر في بقعة محددة وفي زمن معين وقد غادر الكل أهله وابتعد عن أحبته، فضاقت نفسه واشتاق لبلده، فيحصل الاكتظاظ والتدافع، ويضطر الإنسان إلى الانتظار ويحتاج إلى الصبر، وهنا تظهر أخلاق المسلم ويتجلى حلمه وقدرته على تطبيق تعاليم الإسلام وأسسه، فكيف يمكن أن نتصور حاجا وفقه الله لأداء هذه الفريضة، ومهد له السبل لها فيفسد حجه بالتدافع والتسابق على أتفه الأشياء، بل وبتبادل السب والشتم ـ والضرب أحيانا ـ في أطهر البقع وأزكاها، وأية صورة يعطيها هذا الحاج عن دينه وعن بلده، وعن أهله وعشيرته.
فاعلم أخي الحاج يامن وفقه الله ويسر له السبل لحج بيته وزيارة نبيه، أنك قد لا تتمكن من زيارة تلك الأماكن المقدسة مرة أخرى، وأنك ستفسد حجك وزيارتك بسوء أخلاقك ومعاملاتك، وأن الذنب يعظم بعظم الزمان والمكان، فكيف وأنت في أطهر الأماكن وأقدسها، وفي أعظم الأزمنة وأجلها، وفي عبادة فرضها الله عليك مرة في العمر، فالتزم الأخلاق الحسنة في كل المواقف، وتحلى بالحلم والصبر في كل الحالات، واحرص على نظافة لباسك ومكانك، ولا تؤذ غيرك بأزبالك وفظلاتك، ولا بما ابتلاك الله به من أمراض، وانصح غيرك بما تربيت عليه من حسن الخلق، وعلم غيرك مما علمك الله، وساعدا الضعيف والمحتاج، واعلم بأنك تمثل أخلاق ومعاملات الإسلام أمام أهل الديانات الأخرى الذين يتتبعون هذا اللقاء الإسلامي الكبير، وتعطي صورة عن بلدك لباقي أبناء دول الإسلام.