الحــج : آداب وأحكام ـ 2 ـ للدكتور محمد كنون الحسني
الحــج : آداب وأحكام ـ 2 ـ للدكتور محمد كنون الحسني
الحــج : آداب وأحكام
ـ 2 ـ
تحدثنا في العدد الماضي عن فضائل الحج ومزاياه ،وبعض ما يجب أن يتحلى به المسلم في ذلك المقام العظيم، وهو يمثل دينه ووطنه ويعطي صورة للآخر عن أخلاق المسلمين وتعاونهم وتراحمهم وتسامحهم، واستحضرنا بعض مناقب وفضائل تلك البقع الطاهرة التي تحدث عنها الحق سبحانه وتعالى في كتابه العزيز.
والذي يستشعر تلك المزايا والبركات التي تحف تلك الأماكن لا مناص أنه يدرك بثاقب فكره وجوب ذهابه إلى هذا البيت إذا استطاع إلى ذلك سبيلا، ولهذا لم يأمر الله تعالى أمرا صريحا بالحج فلم يقل: ” حجوا ” مثلا، بل اكتفى بأن يصرح بالنتيجة الآزمة لتلك المقدمات السابقة، وقال على وجه الإخبار وهو آكد في الإلزام وأبلغ في الإيجاب: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) أل عمران الآية 97. والمعنى لوجه الله لا لشيء سواه يجب على كل مكلف أن يقصد هذا البيت الحرام لأداء النسك الخاص به متى كان ذلك في استطاعته بأي طريق من طرقها المشروعة، ومن جحد ما ألزمه الله من فرض حج بيته وكفر به فإن الله غني عنه وعن حجه وعمله وعن جميع خلقه، وهذا نوع من الترهيب يهدد التارك بكبيرة الكفر وينذره بأشد أنواع الأذى والخطر، لأنه تعالى قال: ( ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) في مقام قوله ومن لم يحج فإن الله غني عن العالمين.
وقد جاءت السنة النبوية مؤيدة للكتاب في ذلك، أخرج الترمذي وقال حديث حسن، عن علي مرفوعا ” من ملك زادا أو راحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا، وذلك أن الله تعالى يقول ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ” وفي رواية البيهقي عن أبي أمامة مرفوعا: “من لم تحبسه حاجة ظاهرة، أو مرض حابس، أو سلطان جائر، ولم يحج، فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا” . وتحقيق الحكم : أن من ترك الحج مع الاستطاعة وهو معتقد لوجوبه مؤمن بعدل الله تعالى وحكمته في طلبه، غير أن الكسل قد طغى عليه وطول الأمل قد غره ومات على ذلك ، لم يحكم بكفره وجحوده إنما يحكم بأنه مات عاصيا آثما، لأن في ذمته ركنا من أركان دينه لم يؤده وهو مستطيعه، أما من ترك الحج مع القدرة جاحدا لوجوبه، أو هازئا به أو بمناسكه غير واثق بحكمة الله فيه فإنه لا شك يكون كافرا مرتدا عن الإسلام، ولا تنس أن المرتد أسوأ حالا وأشد نكالا ممن نشأ كافرا ومات كافرا.
هانتم أولاء يامن توفرت لديهم شروط الاستطاعة قد رأيتم قيمة الحج في نظر الإسلام وأدركتم خطر الترك كسلا وأملا، أو جحودا وهزؤا، واعلموا أن مال الله الذي في أيديكم إنما هو عارية ستسترد منكم إما أحياء فتفتقرون أو أمواتا فتتركونها وتذهبون، ثم يتنعم الورثة بها وأنتم عليها تعذبون، ويتمتعون بها وأنتم من هولها تحاسبون، ثم اعلموا أن الحج إلى بيت الله الحرام أولى ثم أولى وأزكى ثم أزكى وأفضل ثم أفضل من السفر إلى أوربا أو أمريكا أو غيرها من الدول والقارات التي يسافر البعض إليها صيفا أو شتاء للترفيه عن النفس والاستراحة من العمل، لأن مال الحج يذهب في طاعة الله ومن أجل مرضاته، وينتقل من يد مسلمة إلى يد أخرى مسلمة ثم تعمر بها أشرف الأماكن وأقدسها.
والاستطاعة المتحدث عنها هنا والتي لا يصبح الحج واجبا إلا بتوفرها نوعان: إمكان الوصول إلى مكة بلا مشقة فادحة، والأمن على النفس والمال بحيث إذا كان الحاج سيصادف في طريقه خطرا يحدق به، أو مرضا معديا يفتك به يصبح الحج ساقطا عنه إلى حين زوال الخطر أو المرض، وقد أفتى العلماء المغاربة قديما بسقوط الحج في أعوام انتشر فيها مرض الطاعون وخافوا على الحجاج من عدواه. أما المرأة فلا تتحقق استطاعتها إلا بوجود محرم من نسب أو رضاع أو رفقة آمنة يصاحبها.
وللحج أركان أربعة يضيع الحج ويبطل بتضييعها أو تركها وهي:
الإحرام وهو نية أحد النسكين الحج أو العمرة أو نيتهما معا، فإن نوى الحج فمفرد ، وإن نوى العمرة فمعتمر ، وإن نواهما معا فقران أو متمتع، ووقت الإحرام يبتدئ من ليلة عيد الفطر لفجر يوم النحر، ولا يدخل مكة إلا من أحرم بحج أو عمرة ولا يجوز له تعدي الميقات بلا إحرام. ومن تعداه بلا إحرام رجع له وجوبا ليحرم منه، ويتم التنبيه إلى مكان الإحرام في الطائرة بواسطة ربانها ، أو بوقوف الحافلة لمن أتى من المدينة. وواجبات الإحرام ثلاثة: التجرد من المخيط بالنسبة للذكر فقط ـ وكشف الرأس بالنسبة للذكر أيضا ـ والتلبية للذكر والأنثى ـ أما سننه فأربعة: وصل التلبية بالإحرام، وغسل متصل بالإحرام ، ولبس إزار بوسطه ورداء على كتفيه ونعلين في رجليه، وركعتان بعد الغسل وقبل الإحرام .
السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط والبدأ بالصفا ، فإن ابتدأ بالمروة لم يحتسب به، وشرط صحة السعي أن يتقدم عليه طواف صحيح، ولا يعتد بالسعي إن لم يتقدم عليه طواف، ويجب السعي بعد طواف واجب، ويجب تقديمه على الوقوف بعرفة إن وجب عليه طواف القدوم، وطواف القدوم يجب بشروط ثلاثة: إن أحرم من الحل، ولم يخش فوات الحج بفعل الطواف، ولم يردف الحج على العمرة.
الوقوف بعرفة: والمقصود به الحضور لعرفة يوم التاسع من ذي الحجة، ويكون نهارا من الزوال إلى مغيب الشمس،ويجب فيه الطمأنينة، ويشترط فيه النية أي نية الوقوف بعرفة الذي هو ركن من أركان الحج، والعلم بأنه عرفة زمانا ومكانا، ومن سننه خطبتان كالجمعة بعد الزوال بمسجد عرفة يعلم الخطيب فيها الحجاج ما بقي عليهم من المناسك ، وجمع صلاة الظهر والعصر جمع تقديم. والنزول بمزدلفة بقدر حط الرحال وصلاة المغرب والعشاء جمعا.
طواف الإفاضة : ويجب له ركعتان بعد الفراغ منه، أما شروط صحته فهي : الطهارة ، وستر العورة ، وجعل البيت عن يساره حال الطواف، وكون الطواف سبعة أشواط، وكونه متتاليا ، داخل المسجد، ويقطع الطائف طوافه وجوبا ولو كان طواف إفاضة لإقامة صلاة الفريضة ، ويجب ابتداء الطواف من الحجر الأسود كما يجب الطواف مشيا على الأقدام للقادر عليه. والطواف الذي يعتبر ركنا من أركان الحج هو طواف الإفاضة الذي ينهي به الحاج مناسكه ويتحلل به التحلل الأكبر ، ووقته صباح يوم العيد حيث يقوم برمي جمرة العقبة ثم يحلق رأسه ثم يقوم بطواف الإفاضة.
فهذه باختصار أركان الحج الأربعة التي يضيع الحج بضياعها، ذكرتها باختصار شديد حتى يكون الحجاج على بينة منها ومن أوقاتها وشروطها، وحتى يضعونها نصب أعينهم ويحرصون عليها أشد الحرص، أما باقي المناسك الأخرى فتجبر بالدم أي بالهدي ولا يبطل الحج بها.
وأخير يجب أن تعلم أخي الحاج أن أول الحج الفهم، أي فهم موقع الحج في الدين، ثم الشوق إليه ، ثم العزم عليه، ثم قطع العلائق المانعة منه، ثم تسديد الديون وإرجاع الودائع وجمع المال الحلال، ثم الإقبال على الله والتوبة إليه وعقد النية على ترك المعاصي والشهوات، ثم القيام بالإجراءات الموصلة إلى الحج، ثم شراء ثوب الإحرام والركوب إلى البيت الحرام، فإذا أحرمت ولبيت فلتعلم أن معنى ذلك إجابة نداء الله عز وجل ، فإذا دخلت مكة فتذكر أنك قد انتهيت إلى حرم الله تعالى آمنا ولترج عنده أن تأمن بدخوله من عقاب الله عز وجل، ولتخش أن لا تكون أهلا للقرب فتكون بدخولك الحرم خائبا ومستحقا للمقت، وعند وقوع بصرك على البيت استحضر عظمت البيت في قلبك، وقدر كأنك تشاهد رب البيت لشدة تعظيمك إياه، وأما عند الطواف فاستحضر في قلبك التعظيم والخوف والرجاء واعلم أنك بالطواف متشبه بالملائكة المقربين الحافين حول العرش الطائفين حوله، وأما الاستيلام فاعتقد عنده أنك عازم على التوبة والطاعة، فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” الحجر الأسود يمين الله عز وجل في الأرض يصافح بها خلقه كما يصافح الرجل أخاه” وأما السعي بين الصفا والمروة ففيه إظهار لإخلاص ورجاء الرحمة والعطف والقبول، وأما الوقوف بعرفة فتذكر فيه اجتماع الأمم يوم القيامة والزم قلبك الضراعة والابتهال إلى الله لعلك أن تكون من المقبولين عنده. وأما رمي الجمرات فاقصد به التشبه بإبراهيم عليه السلام حيث عرض له إبليس في ذلك الموضع ليدخل على حجه شبهة أو يفتنه بمعصية فأمره الله عز وجل أن يرميه بالحجارة طردا له وقطعا لأمله، وأما زيارة المدينة فتذكر أنها البلدة التي اختارها الله عز وجل لنبيه وجعل إليها هجرته ، وأما زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم فينبغي أن تقف فيها عند قبره ، وتزوره ميتا كما تزوره حيا مع ما يلزم ذلك من تقدير واحترام وإجلال.