الكـــــــــــذب للدكتور محمد كنون الحسني

الكـــــــــــذب للدكتور محمد كنون الحسني

الكـــــــــــذب

يقول مولانا جل علاه: “ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ “، ويقول سبحانه:” قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ” أي لعن الكذابون، ويقول سبحانه:” إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ”

الكذب هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه عمدا ولا شك أنه من أقبح الذنوب والآثام، فالأمة إذا تعاملت بالكذب فيما يقع بينها من معاملات ولبست به فيما تتوقف عليه من مصالح ومشروعات أضاعت وجودها وفقدت أكرم صفاتها، فالمجتمع الإسلامي الصالح هو الذي يكون الصدق أساس المعاملة فيه، والمجتمع الفاسد هو الذي يكون الكذب غالبا عليه حتى يهلكه ويمحق اسمه من الوجود، وقد يبقى المجتمع محفوظا إذا غلب فيه الصدق على الكذب ولكنه يكون فاسدا ومنحطا لأنه يتضرر بقدر ما فيه من الكذب، لأن الكذب وإن قل يسقط الاعتبار ويورث الخزي والكسوف والاستصغار ويوجب الشقاء ويسبب الخصام والحمام، فكم من كذوب مشداق قتل بسيف الاختلاف، والصدق أحد أركان بقاء العالم حتى لوتوهم ارتفاعه لما صح نظامه وبقاؤه، ولكون الكذب أساسا لعظائم الموبقات والصدق جامعا لكثير من خصال الخيرات جعل النبي صلى الله عليه وسلم الصدق هاديا إلى البر الذي هو طريق الجنة والكذب هاديا إلى الفجور الذي هو الاسم الجامع للموبقات، والذي هو طريق إلى النار وغضب الله، أخرج البخاري ومسلم وأبو داوود والترمذي واللفظ له مرفوعا: “عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا، وأخرج أحمد: أن رجلا قال يا رسول الله: ما عمل أهل النار؟ قال الكذب، فإن العبد إذا كذب فجر وإذا فجر كفر وإذا كفر دخل النار”.

 ويكفي في قبح الكذب إنه من علامات المنافقين كما يشير إليه قوله تعلى:” وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِين فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُون فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ “، وفي الصحيحين مرفوعا : “ءاية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان”، وعن صفوان بن سليم “قلت يا رسول الله أيكون المومن جبانا؟ قال نعم، قلت أيكون المومن بخيلا؟ قال نعم، قلت أيكون المومن كذابا؟ قال لا”، وقال عليه السلام : “إن الكذب باب من أبواب النفاق”،

لا يكذب المرء إلا من مــــهانته        أو فعلة السوء أو من قلة الأدب

لبعض جيفة كلب خير رائحـــــة     من كذبة المرء في جد وفي لعب,

وأخرج أحمد وابن أبي الدنيا مرفوعا: “من قال لصبى تعال هاك أعطيك ثم لم يعطه فهي كذبة”، وفي رواية لأبي داوود والبيهقى عن عبد الله بن أبي عامر قال:” دعتني أمي يوما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا فقالت: هاك تعال أعطيك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أردت أن تعطيه؟ قالت أردت أن أعطيه تمرا، فقال لها صلى الله عليه وسلم أما أنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة” ، فالكذب جماع النفاق وعماد مساوي الأخلاق، عار لازم وذل دائم جمع كل خصلة ذميمة، ومرتكبه فاق مرتكب النميمة:

لي حيلة فيمن ينـــــــــــــــــم           وليس في الكذاب حيلة

من كان يخلف ما يقول          فحــــــــيلتي فيه قليلة

فتبا للكذاب الجاني على نفسه بفعاله الدال على فصيحته بمقاله، فما صح من صدقه نسب إلى غيره وما شاع من كذب غيره نسب إليه، حسب الكذوب من البلية بعض ما يحكى عليه ، فمتى أشيعت كذبة من غيره نسبت إليه، ومن أعظم الكذب واقحه وأبشعه ما كان فيه إذاية للمسلمين كالبهتان وهو افتراء الكذب على المومن وقذفه بالباطل والسعي به للأمراء بغير حق، قال تعالى:” وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ” وأخرج أحمد وأبو الشيخ مرفوعا “خمس ليس لهن كفارة الشرك بالله وقتل النفس بغير حق وبهت مومن والفرار من الزحف ويمين صابرة يقتطع بها مالا بغير حق”، وأخرج الطبراني مرفوعا:, “من ذكر امرءا بشيء ليس فيه ليعيبه به حبسه الله في نار جهنم حتى يأتي بنفاد ما قال فيه”، وأخرج أحمد والترمذي والنسائي والحاكم وابن حبان والطبراني مرفوعا: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده و المومن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم”، قال بعض العارفين: وهذا من شرط كل داع إلى الله عز وجل فمن ادعى مقام المشيخة ولم يسلم الناس من لسانه ولا من يده فهو كاذب، لأنه إذا لم يسلم له مقام الإسلام فكيف بمقام الإيمان، فكيف بمقام الإحسان الذي يدعيه، فان شرط الداعي أن يقف في محل القرب يدعوا المطرودين عن حضرة الله إلى حضرة الله فكيف بالمطرود يدعوا المطرودين، فلذلك لا ترى من إتباعهم ناجحا ولا مفلحا ولا رابحا. وقديما قيل من أراد أن ينظر إلى مقام شيخ لم يكن اجتمع به فلينظر إلى تلميذه فإنه يدل عليه، ولعمري إن الفلاحين وأهل الصنائع أحسن حالا وأقرب إلى الله من هؤلاء المدعين لأنهم طول عمرهم في أعمال شاقة في نفع الخلق، وهؤلاء المدعون طول عمرهم ساعون لإضرار الخلق، وأخرج ابن أبي الدنيا مرفوعا: “شر الناس منزلة يوم القيمة من يخلف لسانه أو يخلف شره”، وفيه تبكيت للشرير وأنه وإن ظفر بما ظفر من الأغراض الدنيوية فهو خاسر.

ومن أعظم أنواع الكذب, الكذب على الله قال تعالى،” وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى الْإِسْلَامِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ” وقال سبحانه: “وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ ۚ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ”

 ثم الكذب على رسوله صلى الله عليه وسلم، أخرج الشيخان وغيرهما مرفوعا:” من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار”، وأخرج الطبراني مرفوعا: “إن من أكبر الكبائر أن يقول الرجل علي ما لم أقل ثم الكذب على المنام”،

ثم الكذب بالنسب”، أخرج الشيخان مرفوعا: “من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا”، وفي رواية لأبي داوود مرفوعا: “من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيمة”، وأخرج أحمد وابن ماجة مرفوعا:” من ادعى إلى غير أبيه لم يرح رائحة الجنة” زاد ابن ماجة: “وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام”، وفي الصحيحين مرفوعا: “من ادعى أبا في الإسلام يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام”، وأخرج الطبراني في الصغير والأوسط مرفوعا: “من تبرأ من نسب وإن دق أو ادعى نسبا لا يعرف فقد كفر،” المراد به كفر النعمة ثم الكذب في حديث الناس، أخرج أحمد مرفوعا: “كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك مصدق وأنت له به كاذب”.

 ثم إن الكذب يجوز بل يجب في بعض المواطن وهو ما كان لإنقاذ نفس معصومة أو مال معصوم من ظالم، كما لو رأيت رجلا يسعى خلف إنسان ليقتله ظلما أو يأخذ ماله ظلما فدخل دارا أو محلا استتر فيه فسئلت أرأيت فلانا فقلت لا فهذا الكذب واجب لأنه وسيلة إلى عصمة دم مسلم وماله.

ومن الكذب الذي لا يوجب الفسق ما جرت به العادة في المبالغة كقولك قلت لك ذلك مائة مرة فإنه لا يريد به المرات بعددها بل المبالغة، فإن لم يكن قال له إلا مرة واحدة كان كاذبا، ومن ذلك ما في الصحيح مرفوعا: “كل كذب مكتوب إلا كذب الرجل في الحرب فإنها خدعة أو كذب المرء بين الرجلين ليصلح بينهما أو كذبه لامرأته ليرضيها”.

 وكما يجوز الكذب في هذه المواضع يجوز التعريض أي التورية بأن يكون للفظ معنيان ويراد المعنى البعيد منهما، ففي الحديث: ” إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب”، وعن أبي بكر أنه كان خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجر معه فتلقاه العرب وهم يعرفونه ولا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم، فيقولون من هذا؟ فيقول يهديني السبيل، فيظنون أنه يعني هداية الطريق وهو يريد سبيل الخير، وفي غزوة بدر ركب صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر يتجسسان أخبار قريش حتى وقفا على شيخ من العرب لم يعرفهما، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم؟ فقال الشيخ لا أخبركما حتى تخبراني من أنتما، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إذا أخبرتنا أخبرناك، فقال الشيخ نعم ذاك بذاك، فأخبرهما بما عزمت عليه قريش فلما فرغ من خبره قال ممن أنتما؟ فقال عليه السلام نحن من ماء ثم انصرفا عنه، فقال الشيخ لعلهما من ماء العراق وأراد صلى الله عليه وسلم الماء الدافق أي المني، وهو من التورية.