الزكاة: فضائل و أحكام ـ 1 ـ للدكتور محمد كنون الحسني

الزكاة: فضائل و أحكام ـ 1 ـ للدكتور محمد كنون الحسني

الزكاة: فضائل و أحكام

ـ 1 ـ

  إن عناية الإسلام بالمجتمع الإنساني والحرص على حل مشكلاته وعلاج أمراضه ، تعتبر من أولويات هذا الدين الذي جاء بتكريم الإنسان وتحريره، والسمو به إلى أعلى الدرجات وتعظيمه، ففي الإسلام تتساوى الشرائح البشرية، وتتعانق المعاني الروحية والإنسانية، فهو متكفل بالسعادة الدنيوية والأخروية على وجه لا يتطرق إليه خلل ولا نقصان، لما جاء به من أخلاق فاضلة، وسجايا جميلة ، وآداب كاملة ، وعوائد حسنة .

فلم يتصور الإسلام الإنسان فردا منقطعا في فلاة، أو متوحدا منعزلا في كهف أو دير، بل تحدث عنه دائما عضوا فاعلا مأثرا في مجتمع قوامه التآزر والتعاون، يعيش في وحدة متكاملة لا تفرق بينها الفوارق، وهذا ما نطق به القرآن الكريم في قوله عز من قائل : ¥ يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ¤ إن مقتضى عناية الإسلام بالإنسان، العناية بالمجتمع كله، لهذا خاطب الله بالتكاليف الجماعة المؤمنة لا الفرد المؤمن فقال: ¥ يأيها الذين آمنوا¤ وكانت مناجاة المؤمن لربه في صلاته بلسان الجماعة لا بضمير الفرد ¥ إياك نعبد وإياك نستعين إهدنا الصراط المستقيم  ¤ .

وإذا كانت عناية الإسلام بالمجتمع قد عمت كل فئاته وشرائحه، فإنها ركزت بالأساس على الفئات الضعيفة داخل هذا المجتمع، فقد تكررت الدعوة في القرآن الكريم إلى الإحسان باليتامى باعتبارهم يشكون ضعفا من فقدان الأب والأم، والمساكين باعتبارهم يشكون ضعفا من فقدان المال، وابن السبيل باعتباره يشكو ضعف البعد عن الوطن، والرقيق باعتبارهم يشكون ضعفا من فقد الحرية… إلى غير هؤلاء من الفئات الكثيرة التي دعا القرآن الكريم إلى الاعتناء بها والإحسان إليها لضعفها واحتياجها. بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم نبه إلى قيمة هذه الفئات ومكانها من المجتمع حين قال لسعد بن أبي وقاص فيما رواه البخاري ” هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم”.

ومن هنا كان حرص الإسلام على أن تكون كل فئات مجتمعه مستريحة مطمئنة إلى أن معيشتها مكفولة، وحقوقها في العيش الكريم مضمونة، فالقوي يدافع عن الضعيف، والغني يساعد الفقير إذا عجز عن العمل أو قدر عليه ولم يجده، أو وجده ولم يكفه دخله، والمقيم يساعد الغريب المحتاج المنقطع عن ماله ووطنه، والموسر يخفف عن المعسر أو المدين.ولهذا شرع الإسلام الزكاة لينهض المسلم بأخيه إذا عثر، ويمده بالقوة إذا ضعف ، فهي مظهر من مظاهر الضمان الاجتماعي المفيد، تطهر النفس من أوطار الشح والبخل وتضمن حقوق العيش للمعوز والمسكين المحتاج وتقرب الشقة بين الأغنياء والفقراء، وتخفف من وطأة الفوارق الطبقية.

فمن روائع الإسلام أنه عالج مشكلة الفقر والحاجة منذ أربعة عشرة قرنا وجعل للمحتاجين والفقراء حقا في أموال الموسرين والأغنياء يكفر من جحده، ويفسق من تهرب منه، ويؤخذ بالقوة ممن منعه، وتعلن الحرب من اجل استيفائه على من أبى أو تمرد ، لأن هذا الحق الذي سماه الإسلام الزكاة عبادة وفريضة دينية، ثالثة دعائم الإسلام وأركانه، لايقتصر أثرها على رعاية حقوق الفقراء وإعانة المحتاجين، بل يتجاوز ذلك لتصبح الزكاة وسيلة لترشيد تداول المال في المجتمع بطريقة تحفظ  أمنه وتحقق آماله فهي جزء من النظام المالي والاقتصادي في الإسلام ومورد أساسي من الموارد المالية في الدولة الإسلامية عنت بها كتب الفقه المالي في الإسلام مثل كتاب الخراج لأبي يوسف وكتاب الأموال لأبي عبيدة والسياسة الشرعية لابن تيمية .

ولم يكن أمر مشروعية الزكاة قصرا على الإسلام وحده بل هي فريضة سماوية انطوت عليها تعاليم سائر الشرائع التي أنزلها الحق سبحانه وتعالى. فقد ذكر القرآ ن الكريم في حديثه عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام أن الزكاة كانت إحدى التعاليم الرئيسة التي كلفهم الله سبحانه وتعالى بامتثالها أمرهم بتبليغ أقوامهم بوجوبها عليهم فقال سبحانه في سورة الأنبياء :الآية 23 ¥ وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإيقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين ¤ .

 كما حكى القرآن في سورة مريم أن المسيح عليه السلام حين حمل أمانة الرسالة أمره الله بالصلاة والزكاة فقال مخبرا قومه بما وصاه به ربه ¥ وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا¤ سورة مريم الآية 31 . وتحدث القرآن الكريم عن إسماعيل عليه السلام فقال:  وكان يامر أهله بالصلاة و والزكاة وكان عند ربه مرضيا ¤ مريم 55 . كما بين الكتاب العزيز أن إخراج الزكاة كان إحدى حيثيات العهد الذي أخذه المولى سبحانه على بني إسرائيل، يقول سبحانه : ¥ وإذا أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ¤ البقرة 43 .

  ويقول سبحانه في آية أخرى من سورة البقرة مخاطبا لبني إسرائيل: ¥ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين ¤ حيث جاء في أحكام القرآن لابن عربي ” أمر بالزكاة لأنها معلومة في كل دين من الأديان ” ج 1 ص:10 . وفي حديثه عن أهل الكتاب بصفة عامة لخص القرآن ما أمروا به في قوله ¥ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة¤ البينة :الآية 5 .

وعلى هدي تلك السنة القويمة جاء الإسلام فجعلها فرضا من فرائضه وقرنها في عدة آيات بالإيمان والصلاة اهتماما بشأنها وبيانا لمكانتها ووظيفتها . واستدعت واقعية هذا الدين القائمة على مراعاة الطبائع والتجاوب مع الغرائز بتهذيبها دون مصادمتها، والمستنـدة إلـى مبــــدأ التدرج في القضايا التي يشق على النفوس التكليف بها فعلا أو تركا ، أن تهيأ النفوس ويحسن إعدادها لتلقي الأمر الإلهي بفرضية الزكاة . 

 فكان أمر الله بالإنفاق في سبيل الله ، وبالبذل بسخاء في وجوه الإحسان وضروب الخير . وتذكيرهم بما ينتظر المنفقين والمتصدقين من عظيم الأجر وموصول الثواب يوم الجزاء، وغرس اليقين في نفوسهم بأن المال المتصدق به وإن كان يشكل نقصا في الظاهر إلا أنه في واقع الحال نماء وبركة يقول سبحانه :¥ يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل ، وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم ¤ البقرة 215. ويقول : ¥ فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون وما آتيتم من ربا لتربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ¤ الروم 39 .

ومن خلال استعراضنا للآيات المكية التي تحدثت عن الزكاة نسجل الملاحظات التالية :

1 ـ أنه قد ورد ذكر الزكاة بلفظها الصريح في ثماني سور مكية .

2 ـ العديد من الآيات المكية وصفت الزكاة بكونها ” حقا ” كما في قوله سبحانه :¥ وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا ¤ وقوله :¥ وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ¤  الذاريات 19 وقوله ¥ وآتوا حقه يوم حصاده ¤ الأنعام 141 .

3 ـ أن وصف الزكاة بكونها ” حقا ” ترك على انه حق مطلق فلم يبين الحق سبحانه لهم الأموال التي منها ينفقون ولم يحدد لهم القدر الذي يؤدون بل ترك ذلك لإيمان أصحاب الأموال ، وما تبذره دعوة الحق في نفوسهم من روح الخير وما تستجيشه في صدروهم من الشعور الإنساني الكريم .

4 ـ إن الإسلام قد شرع الصدقة في مكة لذوي الحوائج والأرحام لكنها في هذا العهد كانت تتخذ طابع الطوعية وصفة الإحسان الفردي العائد إلى اختيار المسلم ورغبته .

ومهما يكن من امر ، فإن حديث القرآن المكي عن الزكاة باسمها الصريح، وبصورة متكررة، والتعبير عنها بأنها حق فإن ذلك قد مهد الأجواء وأعد النفوس ووفر القناعة بها،  بحيث يكون فرضها مستقبلا امرا مستساغا يتلقى بالقبول والتنفيذ .

حتى إذا اذن الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام بالهجرة إلى المدينة المنورة فيكونوا أمة لها هدفها وطريق حياتها المتميز ،نزل الوحي ليعلن فريضة الزكاة ذات الأنصبة والمقادير ، ولتتولى السنة النبوية تفصيل الأموال التي تخضع لها ، وشروط وجوبها وأنصبتها، والواجب فيها وجهات صرفها.

                                                                                     ـ يتبع ـ