الزكاة: فضائل و أحكام ـ 2 ـ للدكتور محمد كنون الحسني

الزكاة: فضائل و أحكام ـ 2 ـ للدكتور محمد كنون الحسني

الزكاة: فضائل و أحكام

ـ 2 ـ

نزل الوحي على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في المدينة ليعلن فريضة الزكاة ذات الأنصبة والمقادير ، وذلك في آيات كثيرة منها: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ) وقوله أيضا: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) ولتتولى السنة النبوية تفصيل الأموال التي تخضع لها، وشروط وجوبها وأنصبتها، والواجب فيها وجهات صرفها.

والمعتد من الآراء عند جمهور العلماء أن الزكاة المفروضة إنما شرعت في المدينة المنورة بعد الهجرة، ولم يخالف هذا الرأي إلا ابن خزيمة في صحيحه  الذي رأى أنها فرضت قبل الهجرة .

وبعد أن شرع الإسلام الزكاة، ووفر لدى المسلم البواعث التي تحفز على إخراجها، عمل على استجاشة المشاعر، وإيقاظ الضمائر لكي تندفع ذاتيا نحو تنفيذ التكليف الإلــهي بإيتاء الزكاة عن رضا وطواعية، من منطلق وازعها الإيماني وحسها الديني وقد ظهر هذا المجال في اتجاهين :

أحدهما : إيجابي ويتمثل بالنصوص الكريمة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والتي تبين بكل جلاء ووضوح أهمية هذه الشعيرة الإسلامية، والمكانة الرفيعة التي تحتلها في البنية الإسلامية، كما توضح ما أعده الله سبحانه وتعالى للمؤيدين لها من عاجل الجزاء في المعاش وآجل الثواب في المعاد .ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى في مستهل سورة التوبة حديثا عن المشركين :¥ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ¤ وقبلها نزل قوله سبحانه: ¥ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ¤ .ففي هاتين الآيتين دلالة واضحة على أهمية الزكاة حيث وردت مقترنة بالصلاة، فهما صنوان يقومان على أصل واحد فالصلاة رأس العبادات البدنية، والزكاة رأس العبادات المالية. ومن جهة أخرى فقد اعتبرت الزكاة شرطا لابد منه لعصمة دم المشركين وثمرة لثوبتهم، كما جعلت عنصرا أساسيا لدخولهم في عداد الأخوة الإيمانية.ويقول سبحانه وتعالى:¥ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ¤ سورة البقرة الآية 177 .ويقول سبحانه وتعالى:¥ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ۖ فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)¤ سورة التوبة الآية 18.وغير ذلك من الآيات الكريمة التي تدل على ما للزكاة من عظيم الأهمية وتبشر مخرجيها بالأجر والثواب في الدنيا والآخرة .

وقد جاءت السنة النبوية لتؤكد هذه المعاني، حيث حفلت بما يجلي منزلة الزكاة السامية وشجعت المؤمنين على بذلها بأروع المعاني وأجمل الأساليب، فقد روت السيدة عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” ثلاث أحلف عليهن لا يجعل الله من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له، وأسهم الإسلام ثلاثة الصلاة والصوم والزكاة ” فهذا الحديث دليل على أن أداء الزكاة من البراهين الصادقة على صدق انتماء المسلم لإسلامه، وعلى سلامة إيمانه. وعن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إلـه إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويوتوا الزكاة “، وما إلى ذلك من الأحاديث التي تبين بكل وضوح أمر الزكاة وثمرتها المباركة في الدنيا والآخرة.

أما المجال الثاني لحديث الإسلام عن الزكاة وتشريعها فيتمثل في التحذير من التقصير في أداء الزكاة وما يستتبع ذلك من العقوبة الدنيوية، وما يستوجبه من العذاب الأخروي، يقول سبحانه : ¥ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ¤ ففي هذه الآية من الوعيد الشديد على الشح بالمال، وحجمه عن أن يكون أداة للنفع العام ما تنخلع له القلوب، وتقشعر لهوله الجلود، وينتزع من النفوس ما جبلت عليه من الحرص على جمع المال وكنزه، وجحود حقوق الله وعباده فيه. قال ابن عباس :” نزلت هذه الآية في مانعي الزكاة من المسلمين وذلك أنه سبحانه لما ذكر قبح طريقة الأحبار والرهبان في الحرص على أخذ الأموال بالباطل يعني قوله تعالى: ¥ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ¤ ثم حذر المسلمين من ذلك وذكر وعيد من جمع المال ومنع حقوق الله منه، واختلف المفسرون في معنى الكنز فقيل هو كل مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤدى زكاته وفي البخاري عن ابن عمر أن أعرابيا قال له : أخبرني عن قول الله سبحانه :¥ والذين يكنزون الذهب … ¤ الآية . قال ابن عمر :”من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له” . ويقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه :” من أتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه  يعني شدقيه ثم يقول : أنا مالك أنا كنزك” .

إن عنصر التوجيه هذا قد غرس في كيان الفرد والجماعة المؤمنة حقيقة مفادها: أن الزكاة من أمر الله وأنها حق من حقوقه، وبالتالي فإن العلاقة الحقيقة فيها هي علاقة بين الله ودافع الزكاة لا بين الغني والفقير، وأعظم بها من حقيقة تحفز على أدائها بكونها عبادة وفريضة تحقق آثارا جمة في حياة الأفراد، وحياة المجتمعات، كما هو شأن عبادات الإسلام كلها. فالصلاة ـ هي عبادة روحية لها ثمارها وآثارها مما أشار القرآن إلى بعضه بقوله تعالى : ¥ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ¤. والصيام كذلك لقوله تعالى : ¥ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ¤. وكذلك الحج ¥ ليشهدوا منافع لهم ¤ . والزكاة أولى بأن يكون لها أثرها في الأفراد والمجتمعات لأنها في جوهرها عبادة مالية اجتماعية.

ومن المنطقي أن نبدأ الحديث عن أثر الزكاة في الأفراد قبل الحديث عن أثرها في المجتمعات، فالأفراد هم اللبنات التي يتكون منها المجتمع. وسلامة البناء إنما تكون قبل كل شيء بسلامة لبناته، ولن نستطيع إصلاح مجتمع ما والرقي به إذا أهملت إصلاح إفراده، وإصلاح أفراده إنما يتم بإصلاح أنفسهم وتزكيتها قال تعالى:  قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ¤ والمشكلات الاجتماعية التي تشكوا منها المجتمعات ـ قد يما وحديثا ـ إنما هي في الحقيقة، وليدة مشكلات روحية وخلقية أسبق منها. ولهذا كان الإصلاح لحقيقي للمجتمع هو إصلاح الأنفس والضمائر أولا، وجدير بنا أن نجعل الشح والبخل وحب الدنيا والعبودية للدينار والدرهم وغيرها من الآفات النفسية والخلقية، مشكلات بل أمراض اجتماعية، وبقدر ما تنتشر في المجتمع تسوء عاقبته وتتفكك أوصاله، وربما يناله من الخير على قدر تطهره منها وتحرره من آثارها.وكان أول ما يجب عمله هنا لتزكية النفس الإنسانية هو تحريرها من العبودية لغير الله تعالى: ومن ذلك العبودية للذات، أي لهوى النفس، والعبودية للغير، سواء كان هذا الغير مجردا أم مجسدا جنا أم بشرا، كوكبا في السماء أم حجرا في الأرض، وسواء كان هذا الحجر من صخر أم من ذهب وفضة .

فلقد كان من الإعجاز الموضوعي للقرآن الاهتمام بأهداف الزكاة بالنظر إلى معطيها نفسه ولم يقصر اهتمامه على آخذيها والمنتفعين بها، وكان هذا مما تميزت به فريضة الزكاة عن الضرائب الوضعية التي لا تكاد تنظر إلى المعطي إلا باعتباره موردا وممولا للخزينة .

وقد عبر القرآن الكريم عن هدف الزكاة بالنظر إلى الأغنياء الذين تؤخذ منهم فأجمل ذلك في كلمتين تتضمنان الكثير من أسرار الزكاة وأهدافها الكبيرة وهما:  التطهير والتزكية، اللتان وردت بهما الآية  الكريمة : ¥ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ¤ . وهما يشتملان على كل تطهير وتزكية سواء كانا ماديين أم معنويين لروح معطي الزكاة نفسه أو لماله وثروته. وأول معاني التطهير والتزكية لنفس المؤدي للزكاة: تطهيره من وثنية المال، وتزكيته بتحقيق معنى التوحيد في نفسه، وإعـلاء أمـره تعالى على نزعات النفس، وتصديق وعد الرحمان في مقابلة وعد الشيطان : ¥الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ۖ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ¤.

ومن هنا كان أول آثارها في نفس من أداها: شعوره بأنه أدى حق العبودية لله تعالى بأداء فرضه وامتثال أمره والقيام بحق الاستخلاف في مال الله الذي آتاه .

 

                                                                                  ـ يتبع ـ