عيد الاستقلال ذكريات وأمجاد للدكتور محمد كنون الحسني
عيد الاستقلال ذكريات وأمجاد للدكتور محمد كنون الحسني
عيد الاستقلال
ذكريات وأمجاد
إن التذكير بأيام الله التي هي من نعمه على خلقه ومن دروسه لعباده، من أساليب الهداية والتعليم في القرآن الكريم، ومن البواعث التي تذكي في القلوب روح الإيمان، وتذكر الإنسان بماضيه وتدفعه إلى العمل من أجل غده، فالأمم تعيش ذكرياتها لتستخلص الدروس والعبر، ولتستحضر فعل الآباء وتجعله عبرة للأبناء، ولتجعل منها قاعدة لانطلاق العمل والبناء، خصوصا إذا كانت الذكرى في تاريخ الأمة حدا فاصلا بين عهدين تمخض ثانيهما عن إشراقة النور وصبح الحرية، وامتداد الكرامة في عنان السماء.
فلقد كانت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حدا فاصلا بين الظلام والنور، أحيا الله بها هذه الأمة التي استجابت لدعوته في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) الأنفال 24، فأحياها حياة طيبة بيضت وجه التاريخ بأخلاقها وعدالتها وإحسانها، ووفى الله لها الوعد الذي قطعه على نفسه في قوله: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ) النور 55، وقد تحقق هذا الوعد الإلهي في أجمل صوره وأكرم مظاهره، فاسأل التاريخ كم أسدت الخلافة الإسلامية للإنسانية من إحسان ومكارم، وأشادت للحضارة والعلوم من مآثر ومعالم مادام المسلمون متمسكين بهداية تلك الشريعة ومستظلين براية الإمامة الإسلامية الرفيعة.
ولقد دخلت أمتنا هذا التاريخ الذهبي منذ دخولها في الإسلام، وسجلت فيه صفحات ذهبية فرضت نفسها على جميع كتابه، وتداولت على عرشها دول إسلامية مجيدة أخذت على عاتقها خدمة الإنسانية والإسلام، وساهمت في نشر الحضارة الإسلامية بين مختلف الشعوب، وعلى رأسها الدولة العلوية الشريفة التي اختارتها العناية الإلهية الحكيمة لتتسلم مقاليد الأمر بهذه الديار فبايعها هذا الشعب المغربي الأبي على الطاعة والولاء والنصرة والوفاء، بيعة شعب مسلم حر مختار، وواثقها بميثاق الشرف والفخار، ميثاق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مع صحابته المهاجرين والأنصار، فكانت البيعة النبوية المحمدية هي العقد الأساسي الخالد الذي انبعثت منه البيعة العلوية المغربية، ومن توفيق الله الذي وافق الدولة العلوية الشريفة منذ نشأتها أنها كانت وارثا أمينا لجميع الدول الإسلامية التي تعاقبت على عرش هذا الوطن فعملت على صيانة أجل أمجادنا، وحافظت على أجمل تقاليدنا، وجعلت من تلك الأمجاد والتقاليد عقدا واحدا منظما وباقة واحدة منسقة، وحمت البلاد والثغور، ودادت عن الوطن وأهله، فدفعت الطامعين، وطردت المستعمرين، وكفت المغاربة شر الأعداء والخائنين.
إن المغرب العربي المسلم لمدين بكل فضل للبيت العلوي المجيد، فقد طهر أئمة هذا البيت شواطئ المغرب من كل غزو أجنبي، وحرروا ربوعه من كل استعمار واحتلال، ودافعوا عن صحراءه حتى نالت حريت الاستقلال، وها نحن نعيش اليوم ذكرى من أعز ذكرياتنا، ويوما من أغلى أيامنا، كان له فضل تغيير خريطة التاريخ السياسي لأمتنا، دفع كآبة الحزن والوهن، واستكمال مجد الآباء والأجداد، والسير قدما إلى الرفعة والسؤدد، إنه يوم عيد استقلالنا، ويوم بزوغ حريتنا، وطرد المستعمر الغاشم عن أرضنا، إنه يوم يحمل في طياته الكثير من المعاني والعبر، وذكرى تجربة رائدة في تاريخ الشعوب المعاصرة تفخر بها الأمة المغربية، وتعتز وتسير في طريق الحياة وقد جعلت نصب أعينها ما استفادته من معاني هذه الذكرى العظيمة التي تلاحمت فيها عزائم الشعب الأبي مع إرادة الملك المجاهد المخلص الغيور محمد الخامس طيب الله ثراه، فتعاقدت وتعاهدت على رد كيد المستعمر إلى نحره، وتحرير البلاد ورد الاعتبار والكرامة المكلومة مهما كانت التضحيات ومهما كانت التكاليف، فوقف الكل موقف رجل واحد لا يرهبهم القمع ولا يخيفهم السجن والنفي والإبعاد، لا ينقص من عزمهم التنكيل والقتل، زادُهم الإيمان العميق والعقيدة الصحيحة ووحدة الصف والإخلاص للوطن، وهدفهم رفع راية الإسلام وتحرير أبنائه من القيود التي فرضها عليهم المستعمر الغاشم، وإرجاع الأرض إلى أهلها والخيرات إلى أصحابها. وشعارهم: الله أكبر، الله أكبر، وإنها معركة حتى النصر، فتحقق فيهم قوله سبحانه وتعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ، وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا، لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا )الأحزاب 23 ـ 24.
فالملك المجاهد لم يثنه عن خوض المعركة تهديد ولا وعيد ولا نفي ولا تشريد، وأبى لهذه الأمة أن يراها مضاعة الحقوق، مقطوعة الجناح، فحاول المستعمر استمالته بشتى الوسائل من ترغيب وترهيب ووعد ووعيد، إلا أن روح الإيمان الذي كان يتوقد في صدره أبت عليه المهادنة والمسالمة والقبول بالوعد والاستمالة، فضرب بذلك مثلا خالدا من أمثلة الصعود والاستعلاء.
والشعب الأبي المشحون بالإيمان والوطنية لم تخفه السجون ولم يثنه التقتيل والتنكيل، فانطلق كرصاصة لا تقبل الرد ولا التحويل، لا يبغي عن الاستقلال بديلا ولا عن الحرية مساومة، فكان النصر وكان الفتح العظيم لهذه الأمة التي ظن المستعمر أنه بقوته وجيوشه يوهن صوت الحق الذي أعلنه الشعب، ويبقى مستحوذا على الأرض والخيرات، لكن أنى له ذلك وقد أبى الله والمومنون، ففتح أفواه مدافعه على المناضلين الأحرار، والعزل من الشيوخ والأطفال، وأشرع أبواب الشجون والمعتقلات، وسارع إلى النفي والتشريد، فطار صوابه واستعجل نهايته، إذ لم يستطع الصمود أمام الحق ورجاله، ومواجهة الإيمان والوطنية.
إنها ذكرى عظيمة ومناسبة جليلة نستحضر فيها الماضي برجاله الأوفياء، ومناضليه الأبرار، ووطنييه الأحرار، ونعيش لحظة مع هذا الماضي المشرق لعلنا نستلهم منه قبسا من نور يعلم أبناءنا سبل الكفاح والنضال من أجل النجاح وبلوغ المرامي، وكيفية النهوض بالدين والوطن، والتشبث بالقيم والمبادئ، والتحلي بالوطنية الصادقة، ويفتح الأفق أمامهم للعمل من أجل غد أفضل.
إن الإيمان الصادق وحب الوطن يبعثان في كل مواطن روح الجهاد التي تدع لأي مستعمر ولا دخيل مكانا في بلدك، مهما كان قويا وطاغية، فالجهاد روح المواطنة وحب الوطن من الإيمان، و كيف لا يكون هذا الحب من الإيمان؟ وهو يدعو إلى الغيرة على الوطن، ودفع الضرر عنه، والذود عن حرمته، والسعي لجلب ما ينفعه ويسير به إلى الأمام، وحفظ خيراته والحرص على نمائها، وصيانة تجهيزاته والعمل على تطويرها، والدفاع عنه في المجامع والملتقيات، والتعريف بأعمال أبنائه ومنجزاتهم ….
فحب الوطن من الإيمان، والإيمان روح العقيدة الإسلامية، والجهاد من أجل الوطن سبيل المؤمن وطريقه، فهو إما أن يحيى حياة العز والكرامة التي أرادها الله سبحانه له، وإما أن يموت موت الشهداء، وهي ميتة العزة والكرامة، وهي كذلك حياة دائمة كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ” رباط شهر خير من صيام دهر، ومن مات مرابطا في سبيل الله أمن من الفزع الأكبر وغدي عليه برزقه وريح من الجنة، ويجري عليه أجر المرابط حتى يبعثه الله عز وجل”، وكما جاء كذلك في حديث آخر: ” من مات مرابطا في سبيل الله أجري عليه عمله الصالح الذي كان يعمل وأجري عليه رزقه، وأمن الفتن، ويبعثه الله يوم القيامة آمنا من الفزع الأكبر”.
إن هذه الروح، الروح الجهادية هي روح العمل والبناء، فالجهاد: بذل الجهد واستفراغ المجهود في كل شأن يرفع من قيمة الوطن والمجتمع ويعلي من شأنهما، فعندما تكون البلاد مهددة بالاستعمار يكون الجهاد في مجابهة المستعمر وفي النضال من أجل الحرية والاستقلال، وعندما تكون البلاد آمنة مستقرة يكون الجهاد بالبناء والتعمير والحفاظ على المكتسبات، وتعليم الأبناء وتهذيبهم وتربيتهم على المواطنة الصادقة، وبنشر الخير والتعاون على البر والتقوى، فمن فاته الجهاد الأول فالباب أمامه مفتوحا للانخراط في الجهاد الثاني ـ الجهاد الأكبرـ من أجل الرقي والازدهار والبناء والتشييد.
إن كل أمة لا تأخذ نفسها بروح الجهاد ستبقى عرضة للمغير والمنتهب، للجهل والتخلف، للفقر والحاجة، وكل أمة لا يتعاون أبناؤها على الفلاح والنجاح، ولا يتبادلون الرأي والمشورة والنصبحة، ولا يتماسكون ويعتصمون بحبل الله، ستتخطاها الأمم ويفوتها الركب.
فلنجعل من هذه الذكريات والمناسبات محطات للعبرة والتعلم، ودروسا في الإيمان والوطنية، ومنارات نهتدي بها في مسيرتنا من أجل بناء الغد الأفضل بنفس الوطنية الصادقة، والنضال المستمر، والبطولة والجهاد الذي قاد آباءنا إلى الحرية والاستقلال. سائرين على نهج الملك المجاهد جلالة الملك محمد الخامس الذي عاد من منفاه وانتهى من مرحلة التحرير لينهض مباشرة إلى الجهاد من أجل البناء والتعمير، وهي المرحلة التي استكملها بعزم وإصرار رفيقه في الجهاد فقيد المغرب الكبير جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه محرر الصحراء وباني المغرب الحديث، وقد واصل تلك المشاريع والأعمال الكبرى جلالة الملك محمد السادس نصره الله معالجا ملفاتها برزانة وحكمة، مجاهدا من أجل الإصلاح والتجديد في التعليم والأسرة، وترسيخ الحريات العامة، والتضامن والتآزر والاجتماعي، وإعادة هيكلة الحقل الديني.