جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل نشر الإسلام للدكتور محمد كنون الحسني

جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل نشر الإسلام للدكتور محمد كنون الحسني

جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم

من أجل نشر الإسلام

 

روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لقد أخفت في الله وما يخاف أحد،  أي غيري،  ولقد أوذيت في الله،أي في دينه، وما يؤذى أحد، أي لم يكن معه أحد يؤذى في الله، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله تعالى والأرض مملوءة بطوائف الكفار وصناديد الطغاة والعتاة قام يدعو الناس إلى الله ويخرجهم عن أديانهم وحده ولا وزير ولا أتباع، والكفر قد سد الآفاق وملأ الأجواء فوقف أمام حياة الشرك ودنيا الوثنية يكافحها وتكافحه ويجادلها وتجادله، وتألبت عليه قوى قريش وقعدت له  كل مرصد، وافتتنت في ضروب إيذائه فمن رمي بالحجارة إلى إثارة الغبار في وجهه إلى تسفيه رأيه،  إلى أخذه لمنجنقه إلى إلقاء  فضلات الإبل عليه وهو ساجد يصلي، إلى تلطيخ باب بيته بالأقذار،إلى تآمر على نفيه أو حبسه أو قتله  رجاء أن يصدوه على الدعوة إلى الله أو يدخلوا اليأس إلى قلبه أو يحولوا بينه وبين أنصاره وأتباعه، ولكن وجدوه كالطود ثباتا وكالسيل اندفاعا وكالسيف مضاء وكالسهم انطلاقا لا يخشى في الله والحق لومة لائم، وقد خرج صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يدعوا ثقيفا إلى الإسلام فأغروا عليه الصبيان والغلمان يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع الناس عليه فجعلوا يحصبونه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين، فصبر وصابر ثم ناجى ربه بهذه الجملة الذهبية الرائعة:  “إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي”، وقد أرسل الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال فقال: إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين وهما جبلا مكة، فقال صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا، ثم يبالغ صلى الله عليه وسلم في إقامة ناموس الأمانة والصدق فيقال في شأنه كذاب ساحر مجنون، كاهن شاعر مفتر ولكن الله يروح عنه ويسليه ويخاطبه بما ينسيه آلامه وبما يعلي من شانه ويرفع من ذكره فيقول: (  ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) وفي غزوة أحد تكسر رباعيته ويشج وجهه الشريف ويقتل أصحابه ويمثل بعمه سيدنا حمزة تمثيلا شنيعا وهو ناظر صابر، ثم يطلب منه أن يدعو على أعدائه فيدعو لهم ويقول:  (اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون) ثم يرزق بأولاد ذكور فيسلبون منه بالموت فيتعلل ويتسلى بالحسن والحسين فيخبر بما سيجري عليهما من القضاء،  فيسكن إلى عائشة زوجه فينغص عيشه بقذفها زورا وبهتانا حتى ينزل الله في شأنها قرآنا بالتبرئة والتطهير والتقديس، واشتد عليه صلى الله عليه وسلم الفقر فكان يتقلب على حصير تؤثر في جنبه الشريف حتى بكى عمر حين رآه على هذه الصورة فقال: كسرى وقيصر في الحرير والديباج،فنظر إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم وقال له: أفي شك أنت يا عمر، ألا ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ ولما حاولت قريش قتله صلى الله عليه وسلم وتعاطوا كل سبب يوصلهم إلى ذلك وطلبوا من أبي طالب المرة بعد المرة أن يخلى بينهم وبينه ولم يجبهم إلى ذلك  وخذلهم الله، جعلوا يعذبون من آمن به كبلال وخباب وعامر ابن فهيرة وياسر وزوجته سمية وولدهما عمار وغيرهم من المستضعفين، ولكن كل ذلك الأذى كان حلوا في أعينهم ما دام  فيه رضا الله فلم يفتنوا عن دينهم بل ثبتهم الله حتى أتم أمره على أيديهم، وصاروا ملوك الأرض بعد أن كانوا مستضعفين كما قال تعالى (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) وقد حقق الله سبحانه ما أراد، ففي الصحيحين عن خباب بن الأرث قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده في ظل الكعبة وقد لقيت من المشركين أذى كثيرا فقلت يا رسول الله:  ألا تدعو الله لنا؟ فقعد صلى الله عليه وسلم وهو محمر وجهه، فقال: إن كان من قبلكم ليمشط احدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب وما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن  دينه، وليتمن الله هذا اللأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ثم أنزل الله تثبيتا للمؤمنين ( ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ) أي لا يبتلون في أموالهم وأنفسهم، كلا لنختبرنهم لنبين المخلص من المنافق والصادق من الكاذب ( ولقد فتنا الذين من قبلهم ) يعني الأنبياء، فمنهم من نشر بالمنشار ومنهم من قتل، وابتلي بنوا إسرائيل بفرعون فكان يسومهم سوء العذاب، ( فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) أي فليظهرن الله الصادقين من الكاذبين.

 ثم أخيرا يمرض صلى الله عليه وسلم بالحمى مرض الموت فيوعك كما يوعك رجلان وهو ساكن ساكت صابر، ثم يشدد عليه الموت فتسلب روحه الشريفة وهو مضطجع في كساء مبلد وإزار غليظ وليس  عند أهله زيت يوقد به زيت المصباح ليلتئذ.

 اللهم اشهد أن هذا الصبر قد فاق صبر جميع الأنبياء ولو حملته الجبال لدكت، فهذه نبذة يسيرة تعطيك صورة مصغرة من ضروب ابتلائه صلى الله عليه وسلم تتمثل فيها العظة وتتجلى فيها العبرة البالغة فيستطيع  المؤمن الموفق أن يتسلى بها ويتخذ منها مشكاة يسير على ضوئها ويهتدي بهديها  في ظلمات الحيرة والضلال كلما نزلت به بلية أو أصابته مصيبة، وإذا قارنت بين صبره صلى الله عليه وسلم وصبر الأنبياء قبله وجدته سيد الصابرين وأفضل الخلق أجمعين، فهذا سيدنا آدم عليه السلام أبو البشر يباح له ما في الجنة سوى شجرة واحدة فلا يقع إلا عليها، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول حتى في المباح: مالي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها.

 وهذا سيدنا نوح يضج بما لاقى من قومه فيصيح  وينادي: رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون.

 وهذا سيدنا موسى عليه السلام يستغيث عند عبادة قومه العجل  فيقول: إن هي إلا فتنتك، ويوجه إليه ملك الموت على صورة إنسان فيقلع عينه. ويقول سيدنا عيسى إن صرفت الموت عن أحد فاصرفه عني، أما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيخير بين البقاء والموت فيختار الرحيل إلى الرفيق الأعلى. وهذا سيدنا سليمان عليه السلام يخاطب الله فيقول هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا، وفي رواية كفافا، هذا والله فعل أفضل نبي عرفه الوجود صبر وصابر ورابط فماتت أغراضه وآنس بالله فهانت عليه زخارف الدنيا ولذات الوجود ومتاع الحياة الفانية، وإن رسولا يؤويه الله بعد يتم ويهديه بعد حيرة ويغنيه بعد فقر، ويؤدبه فيحسن تأديبه ويخاطبه بقوله (والله يعصمك من الناس) (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا) (فإنك على الحق المبين) (إنك لعلى خلق عظيم) (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين) (يأيها النبيء حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) (ورفعنا لك ذكرك )(ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعديك ربك فترضى)…  أقول إن رسولا هذا شأنه وتلك بعض فضائله ومزاياه لجدير بأن يكون القدوة الحسنة والمثل الأعلى للوجود ولحقيق بأن يكون مشكاة للهدى يهتدي بنورها المؤمنون، ويسر على ضوئها المصلحون، فاللهم وفقنا لاتباعه واجعلنا من خير أتباعه وأحينا على سنته وتوفنا على ملته واحشرنا في زمرته.