الاتحاد و التعاون للدكتور محمد كنون الحسني

الاتحاد و التعاون للدكتور محمد كنون الحسني

الاتحاد و التعاون

يقول سبحانه وتعالى:” وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ “.

 أمر الله سبحانه بالاعتصام بالكتاب و السنة و الاحتفاظ بالدين و الملة، والابتعاد عن الشقاق والفرقة وترك الخصومة والنزاع، أمر بذلك أمام تضليل المضلين الذين جعلوا عملهم إلقاء الشبه والفتن على المسلمين، ثم أمرهم عز وجل بالتواصي بالمعروف والنهي عن المنكر وعمل كل ما يؤدي إلى جمع الكلمة واتفاق الأمة، ولما كان هؤلاء المضللون لا ينفكون يلقون بالعداوة و البغضاء بين المسلمين ويعملون لتفريق كلمة المومنين بحيلهم ومكرهم وخداعهم وتلبيسهم وتضليلهم، عاد الكتاب الكريم ينهى المومنين عن الفرقة و الاختلاف فقال جل شانه ۞ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۞ ينهى الله تعالى هذه الأمة أن تكون مثل الأمم الماضية في افتراقهم واختلافهم وتركهم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر مع قيام الحجة عليهم من أنبيائهم و كتبهم، روى أحمد عن أبي عامر عبد الله بن يحيى قال حججنا مع معاوية بن أبي سفيان فلما قدمنا مكة قام حين صلى صلاة الظهر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على تنثين وتسعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، وأنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرف ولا مفصل إلا دخله، والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم لغيركم من الناس أحرى ألا يقوم به، وفي رواية افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على تنثين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، وأخرج الحاكم نحوه عن ابن عمر وزاد كلها في النار إلا واحدة فقيل له ما الواحدة قال ما انأ عليه اليوم وأصحابي.

 فالافتراق حصل في فهم كتاب الله وتأويله واختراع العقائد التي لا يرضاها الله ورسوله وبعد هذا الافتراق كان الاختلاف والشقاق والنزاع و الخصام، وصارت كل فرقة تكفر أختها وتدعي أنها وحدها على الحق ومن عداها على الباطل فتستحل دماء غيرها وأموالهم، فالتفرق في الدين يعقبه الاختلاف بالمخاصمة و المنازعة و القتال وقد تفرق اليهود والنصارى بسبب المعتقدات الدينية واختلفوا اختلافا شديدا ووقعت بينهم المذابح و الحروب التي تقشعر لهولها الأبدان وتشيب منها الولدان، والآن وفيما مضى من الأزمان وجدت الفرق الإسلامية المختلفة  فما أدى إلى الحروب بين المسلمين زمن الخوارج والى حصول العداوة بين الفرق الإسلامية، كما وقع وهو واقع الآن وما اوجد هذه الفرق إلا دسائس أعداء الإسلام ليوهنوا قوة الإسلام فقد اعشى الإسلام كثير من الدساسين ليستطيع نفث سمومه، فمنهم من أوجد المعتقدات الفاسدة، ومنهم من وضع الأحاديث الكاذبة، ومنهم من أول كتاب الله على غير ما انزل الله، ولكن رد الله كيدهم في نحرهم بهمة وجهاد العلماء العاملين في كل وقت وحين، حتى اضمحلت هذه الفرق أو كادت تضمحل، ولكن قد حل محلها التفرق والاختلاف بسبب السياسة، فما مكن أعداء الإسلام منه في كل الأمم الإسلامية و التفرق بكل أنواعه حرام ومنهي عنه، فمتى تسبب أحد في إضعاف المسلمين بالحياد التفرق و الاختلاف استحق العذاب و المقيت الكبير دنيا وأخرى قال تعالى: ۞ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ ۞ وقد أباح الشارع دمه أخرج النسائي وابن حبان في صحيحه مرفوعا ستكون بعد هناة و هناة فمن رأيتموه فارق الجماعة أو يريد أن يفرق أمة محمد كائنا من كان فاقتلوه فان يد الله مع الجماعة وان الشيطان مع من فارق الجماعة يركض أي يسعى سعيا قويا.

 وقد نهى الله عن التفرق و الاختلاف في آيات كثيرة منها قوله تعالى: ” شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ  “، وقوله جل شأنه:”   إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ” أي طرائف ” لسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ۚ ” أي أنت منهم بريء وهم منك برءاء، وقوله جلت عظمته : ” ” وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا ۖ أي تختلفوا ” فَتَفْشَلُوا “أي تجبنوا وتضعفوا ” وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ”  أي قوتكم وحدتكم وقيل نصركم وقيل دولتكم، وقد قيل في قوله تعالى ۞ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ۞ إنها التنازع و الاختلاف وفي قوله ۞ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ ۞ إنها افتراق الكلمة ومخالفة بعضهم بعضا واخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم في قوله تعالى: ۞  إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا ۖ ۞ إذا رأوا من أهل الإسلام ألفة وجماعة وظهورا غاضهم ذلك وساءهم وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافا أو أصيب طرف من أطراف المسلمين سرهم ذلك وابتهجوا به، وأخرج الطبراني في الأوسط مرفوعا:” ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها”، وأخرج أحمد و الطبراني مرفوعا :”عليكم بالجماعة و الألفة والعامة والمساجد، وإياكم و الشعاب”.

 وقد غفلت الأمة الإسلامية عن هذه الأوامر و النواهي وانصرفت عن طرق المجد الصحيحة وتخلفت عن الكون وكل ما أودع الله فيه من أسرار خلقت للانتفاع بها، وسحرت بالطعام والشراب وتلهت بالأحاديث وبالمظاهر الكاذبة الخادعة، وابتعدت عن التحلي بالعزائم الصادقة و الأخلاق القويمة التي كانت عماد نبيها الأكرم ورسولها الأعظم في دعوته وابلاغ رسالته، ولم تكتف الأمة بهذا بل انقسم أبناؤها وتعادوا وأقاموا الحروب بينهم كل له مذهب ينصره، ورأي يدافع عنه ، وكل ينظر إلى مصلحة خاصة فردية أو قومية او جنسية أو مذهبية فصارت القرى من عوامل هدم الأمة لا من عوامل بنائها ومن أسباب شقائها وخذلانها لا من أسباب سعادتها ونصرها، هذا و القرءان الكريم يدعوا إلى الوحدة ويدعوا إلى رد ما اختلف فيه إلى الله ورسوله وصفهم بالأخوة  فقال: ” انما المومنون إخوة” فلم يمتثلوا أمره بل عملوا على التفريق وعلى توسيع نطاق الخلاف، وفي البخاري أنه صلى الله عليه وسلم لما بعث أبا موسى ومعاذا إلى اليمن قال يسرا ولا تعسرا وبشروا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا، وفيه أيضا من حديث البراء في قصة غزوة أحد وفيه أنه صرفت وجوه المسلمين وأقبلوا منهزمين بسبب مخالفتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تبرحوا من مكانكم هذا حتى أرسل اليكم، وفي حديث وفد بني الحارث بن كعب أنه عليه السلام قال لهم بما كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية؟ فقالوا له: كنا نجتمع ولا نتفرق ولا نبدأ أحدا بظلم، فقال صدقتم، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم المومنين بأنهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالحمى و السهر، فلم يكن منهم إلا أنه إذا اشتكى عضو منه زادوا ألمه وحصل لهم الشرور بنكباته، وأشهروا فرصة هلاكه، ولم يقف أمر التخاذل بينهم عند التخاذل بين الأمم بل تخاذلوا جماعات وتخاذلوا أفرادا وتقطعت الروابط بينهم فلا يعني المرء إلا بنفسه ولا يبالي في سبيل مجده أن يهدم غيره ولو لم يقف له في طريق، ولا يبالي بمن مرض ولا بمن جاع ولا بمن ابتلي،  كأن الدنيا كلها شخصه فإذا سلم فقد سلمت الدنيا جميعها ،وما بهذا جاء الرسول ولا بهذا أمر، بل قال صلى الله عليه وسلم ” المسلمون تتكافؤ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم، أي أنهم جماعة واحدة يتعاونون ولا يسعهم التخاذل، وقال: “لن تومنوا حتى تراحموا، قالوا يا رسول الله كلنا رحيم؟ قال انه ليس برحمة أحدكم نفسه وأهل خاصته ولكنها رحمة العامة”.