
حقوق الطفل في الإسلام للدكتور محمد كنون الحسني
حقوق الطفل في الإسلام للدكتور محمد كنون الحسني
حقوق الطفل في الإسلام
لقد اعتنى الإسلام بالطِّفْل من قبْل وجوده، فهيَّأ له أسرة طيِّبة تتكوَّن من والدٍ تقي ووالدة صالحة، فحثَّ رسول الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – الزَّوجة وأهلَها بقوله: ((إذَا خَطَبَ إلَيْكُم مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وخُلُقَهُ، فزَوِّجُوه))؛ وحثَّ الزَّوج بقوله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – كما جاء في الصَّحيحَين: ((فاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يداك)).
كل ذلك من أجل تنشئة الطفل بين أبويْن كريمين يطبِّقان شرع الله، ويرْسمان الطَّريق السويَّة لحياة الأبناء، فأوَّل حقٍّ للطِّفل أن يوفِّق الله أبويْه لحسن اختيار أحدِهِما للآخر، فإذا تمَّ الاختِيار توجَّه الأبوان الصَّالِحان بالدُّعاء في خشوع وإنابة إلى وليِّ الصَّالحين: ﴿ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾، فإذا تكوَّن الطفل في الرحم أعدَّ الله له فائقَ الرِّعاية والعناية، وحرَّم الاعتِداء عليه؛ يقول الله – جلَّ جلالُه -: ﴿ وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ﴾، وأجاز لأمِّه أن تفطر في رمضان؛ رحمةً بها وتمكينًا له من أحسن ظروف النُّمو وتمام الخلق، فإذا حلَّ الطِّفْل بأرض الحياة جعله الله بهجةً وزينة في قلوب من حوله؛ يقول الله – تبارَك وتعالى -: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ .
وبعد ولادته أمر الشرع الحكيم بالاعتناء به وضمان حقوق كثيرة له منها:
- حفظ نسبه وحماية حقوقه وذلك ما لا يتم في زماننا إلا بالحرص على تسجيله في سجلات الحالة المدنية، لأن أي تقصير أو تقاعس عن هذا العمل يضيع حقه في التعليم والعمل وحفظ الأنساب، ومع هذا نجد الكثر من الآباء يقصرون في هذا الجانب ويتقاعسون عن القيام به فيظلمون أبنائهم ويضيعون حقوقهم.
- حسن تربيته بالاعتناء بأكله وشربه ولباسه، وملا عبته وحسن التعامل معه وتربيته على الأخلاق الفاضلة والقيم النبيلة التي جاء بها ديننا الحنيف، وتعليمه الضروري من الدين فكثير من الآباء يلازم الجماعة والمسجد ولا يعلم أبناءه مبادئ الدين ولا ينصحهم باتباع الطريق القويم .
- الحرص على تعليمه بإدخاله المؤسسات التعليمية وتتبع عمله ودراسته والتضحية من أجل ذلك بالغالي والنفيس.
ولقد برزت العناية بالجانب النفسي والمعنوي بالطفل في سيرة نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – وتوجيهاته؛ فقد كان يُمازِح الصبيان، ويُؤاكِل الأيتام، ويمسح على رؤوسهم، وقال: (أنا وكافِل اليتيم في الجنة كهاتين)، وقال: ( ليس منَّا من لم يرحَم صغيرنا)، وأمر بكفِّ الصبيان عن اللعب حين انتشار الشياطين، واستعجَل في صلاته حين سمِع بكاء طفل، ونهى أن يُفرَّق بين الأَمَة وولدها في البيع.
بل إنه – صلى الله عليه وسلم – حفِظ حق الجنين وإن كان نطفةً حرامًا، فأمر المرأة التي زَنَت أن تذهب حتى تضعَ طفلَها، وأخَّر إقامة الحدِّ حفظًا لحق الوليد حين وضَعَتْ ولدَها؛ فأمَرها أن تعود حتى تستكمِل سنتَيْ رضاعته.
وفي أهم فروض الدين وأشدها تعظيمًا كان – عليه الصلاة والسلام – يُصلِّي وهو حاملٌ أُمامة ابنة بنته زينب – رضي الله عنهما -، ويُصلِّي وهو حاملٌ الحسن ابن ابنته فاطمة – رضي الله عنهما -، وحين سجد – عليه الصلاة والسلام – فركِبَ الحسن على ظهره أطال لأجله السجود، وحين سُئِل عن ذلك قال: (إن ابني هذا ارتحَلَني، فكرهتُ أن أُعجِلَه حتى يقضي حاجتَه)، فلم تمنعه خشيتُه لربه ولا وقوفه بين يديه من ملاطفة الصغار ومراعاة مشاعرهم.
إنه بالرغم من كثرة ما أنتَجَتْه المدنيَّةُ الحديثة من خيرٍ، إلا أن ثمَّةَ أنماطًا سلوكية، وظواهر قبيحة أصبَحنا نراها في مجتمعاتنا، وما كانت فيها من قبل، فتحت ضغوط الحياة اليومية، وكثرة الأمراض النفسية، والجرأة على تعاطي المُؤثِّرات العقلية؛ وُجِد فئةٌ من الآباء والأمهات غاضَ نبعُ الحب في قلوبهم، وحلت القسوة نفوسهم، فكان أول ضحايا تلك الأمراض هم الأطفال.
فكم بين جُدران البيوت وأسوار المدارس من طفولةٍ مُنتَهَكة، وبراءةٍ مُغتالة، يتعرَّضُ الأطفال في صورها للضغط النفسي، والعنف البدني، والتعذيب الجسدي، ترى الطفل الصغير ينتظر حنان الأب وعطفه وملاعبته فإذا به يقابله وهو سكران أو مخدر بالعنف والسب، وربما يعتبر الصياح والصراخ في وجه الطفل، وتهديده وتخويفه، وكثرةُ مُعاتبته وتعنيفُه، أسلوبا في التربية والتعليم،وهذا مما يتساهلُ فيه الآباء والأمهات، والمُربُّون والمُربِّيات، ويتصرَّفون بمشاعرهم الغاضبة دون إدراكٍ للعواقب المُدمِّرة لنفسية الطفل، والتعنيفُ والتخويفُ يُورِث شخصيةً مهزوزة، ونفسيةً مُضطربة، خصوصًا وأن الطفل المُعنَّف والمُعذَّب حين تصدُفُه قد لا تسمع منه تعبيرًا يكشِف ما أصابه، وقد حفَرَت تلك الاعتداءاتُ في نفسه أخاديدها، وإن الطفل المُعذَّب وإن عجِز لسانُ مقاله عن الشكوى فإن لسان حاله سينطِقُ بالكثير، والصغير لا يَنسى، وجراحُ الطفولة لا تندمِل.
وثمَّة طفل لم تجد أمُّه المُضطربة نفسيًّا ما تُفرِغُ فيه اضطرابها إلا جسد طفلها، وكم يحدث في المجتمع من أمثال هذه الانتهاكات، وكم تُمارَسُ هذه الوحشية داخل البيوتات، ولا يشعر بها جيرانٌ ولا أهل؛ فقد أساء آباء لأطفالهم، وأدَّبَت زوجاتٌ أولادَ أزواجهن، ولم يسلَم الأطفال حتى من أذيَّة عاملات المنازل، وعاش من عاش منهم مُشوَّه الإنسانية، مُتَّشِحًا بالعدوانية، له مستقبلٌ قاتِم، وربما احترف الجريمة والانحراف فخسِر نفسه ثم خسِرَه المجتمع.
إن أسباب انحراف الأطفال واضطراب سلوكهم وسوء أخلاقهم نابعة بالأساس من سوء تربيتهم وإضاعة حقوقهم التي جاء بها ديننا الحنيف، فتجد القسوة بدل الحنان، والإهمال بدل العناية، والعنف بدل التأثير والإقناع، والقدوة السيئة بدل الحسنة، فعلى أي صورة سيتربى إبن يرى أبويه بعيدين عن الدين والأخلاق الحسنة، يدمنان على المخدرات أو يشربان الخمر، أو يتشاجران ويتضاربات مع الأهل والجيران، يسبان الدين، ويلعنان الملة، يتخاصمان ويتضاربان ويتقصَّدُ كلٌّ منهما الإساءة إلى الآخر، وعيون الأطفال تُشاهد وتترقَّب، ، ويرَون إساءةً لفظيةً من الأب لأمهم، أو إهانةً معنويةً من الأم لأبيهم، أو اعتداءً جسديًّا من أحدهما على الآخر؛
إن الله – عز وجل – حدَّد أوقاتًا لا يدخل فيها الأولاد على والديهم حتى لا تقع أعيُنهم على ما لا يُدرِكون من المُباح؛ أفليس من باب أَوْلَى أن نُشيحَ بأبصار الصغار ونصرِف علمهم عن العلاقة السلبية بين والديهم، فيعيشوا في بيئةٍ نقية، ونفسيةٍ رضيَّة.
إن الخلاف له آداب، والخصومة لها حدود، ولا ضحية هنا للتجاوُز إلا المتجاوِز نفسه وأسرته ومستقبلهم جميعًا.
كم من طفلٍ غُيِّب عن أمه ولا ذنب له إلا خلافٌ لم يكن طرفًا فيه، ولكنه عُوقِب به، والنبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: ( من فرَّق بين والدةٍ وولدها فرَّق الله بينه وبين أحبَّته يوم القيامة).
فبأيِّ ذنبٍ يُحرَم الطفل حنان أمه أو لقاء أبيه وهو بَضعةٌ منهما، ولا غِنى له بأحدهما عن الآخر مهما فعل الأول، يجب أن يُمكَّن الطفل من رؤية والدَيْه، ومن الاتصال بهما متى أراد دون مُحاسبةٍ أو مُضايقة، ولا يجوز بحالٍ أن يكون الانفصالُ بين الوالدين داعيًا لأن يُربَّى الطفل على عقوق أحدهما أو عدم الإحسان إلى الآخر.
يا من وقع الطلاق بينهم من الآباء والأمهات! لا تنسوا الفضل بينكم، واتقوا الله في أولادكم، إن خلافاتكم حبلٌ ممدود طرفاه بأيديكم، وفي وسطه عقدةٌ مُلتفَّةٌ على عنق الطفل، فكلما اشتدَّ أحدُ الأبَوَيْن في الجذب استحكَمَت العُقدة على عنق الطفل، مع أن خلافات الأبوين في الغالب يكون المغلوب فيها خيرًا من الغالب.
خطأ الأطفال مغفور، وذنبهم معفوٌّ عنه، الله قد رفع عنهم قلم التكليف، فارفعوا أنتم عنهم أساليب التعنيف، قِفُوا بين العنف والضعف في موقف الحزم، واقدُرُوا لحداثة السن ومحبة اللهو قدرَها، وإذا كان الطفل لا يُضرَبُ على الصلاة وهي عمود الدين إلا وهو في العاشرة من عمره وبعد أن يُؤمَر بها مئات المرات؛ فكيف يُضربُ ابنُ سنتين وثلاث، وابنُ خمسٍ وسبع على شقاوةٍ فطرية، أو لهوٍ بريء؟!
إنه لا خلاف في مبدأ تصحيح خطأ الطفل إذا أخطأ، ولكن يجب أن يكون التصحيح بأسلوبٍ يبني ولا يهدِم، ويؤدِّبُ ولا يُثرِّب، ولنا في رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أُسوة؛ عن عمر بن أبي سلمة قال: “كنتُ غلامًا في حَجر رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وكانت يدي تطيشُ في الصحفة، فقال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (يا غلام! سمِّ الله، وكُل بيمينك، وكُل مما يليك)، قال: فما زالت تلك طِعمتي بعد”؛ متفق عليه.
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن الحسن بن علي – رضي الله عنهما – أخذ تمرةً من تمر الصدقة فجعلها في فِيْه، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – (كِخْ كِخْ؛ أما تعرف أنَّا لا نأكل الصدقة؟)
وروى الطبراني عن زينب بنت أبي سلمة أنها دخلَت على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو يغتسِل، قالت: “فأخذ حفنةً من ماء فضربَ بها في وجهي وقال: «وراءَكِ أيْ لُكاع)”.
فانظر كيف علَّمَ عمرَ بن أبي سلمة آداب الطعام، وعلَّم الحسنَ الورع، وعلَّم زينب الأدب في الاستئذان وعدم الاطِّلاع على العورات، وتأمَّل كيف كان التعليمُ بأسلوبٍ يفهمُه الصغار، بكلمةٍ واحدة، أو جُملٍ صغيرةٍ مختصرة واضحةٍ يسهُلُ حِفظُها وفهمُها، بلا إهانةٍ ولا تجريح، ولا لومٍ ولا توبيخ، ولا تقطيبٍ ولا تثريب؛ فضلاً عن ضرب الصغير أو الدعاء عليه، وهذا أمرٌ خطير؛ فقد توافقُ الدعوةُ ساعة إجابة فيندمُ الداعي حين لا ينفع الندم.
والنبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: (لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعةً يُسأل فيها عطاء فيستجيبُ لكم).