غض البصر والاستئذان قبل دخول البيوت للدكتور محمد كنون الحسني
غض البصر والاستئذان قبل دخول البيوت للدكتور محمد كنون الحسني
غض البصر والاستئذان قبل دخول البيوت
يقول مولانا جل علاه في سورة النور: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴾.
إن الله تعالى أرسل رسوله سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم بالدين الإسلامي، دين الفضيلة والغيرة، دين الشهامة والعفة، دين المروءة والطهارة، دين التقدم والحضارة، هو الدين الذي لا يختل نظامه ولا يتصدع بنيانه مهما توالت العصور والأيام، وكرت الدهور والأعوام، الدين الذي تمشى مع الأجيال السالفة، ولا يزال يتمشى مع الأجيال المستقبلة حتى يرث الله الأرض ومن عليها﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾، الدين الذي جمع من الأحكام ما ينتفع به العبد في معاشه ومعاده، ويحتاج إليه في غيه ورشاده، الدين الذي لم يترك أمرا من أمور الدنيا ولا شأنا من شؤون الآخرة حتى بين حدوده، ووضح أصوله، وشرح منافعه، وميز حلاله من حرامه ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ ﴾.
يأمرنا هذا الدين القويم فيما يأمرنا به من الفضائل وجميل العادات، بما تضمنته هذه الآية من ضروب الأدب والاجتماع، فإن لكل امرئ في بيته أحوالا خاصة يكره أن يُرى عليها، ولو كان الرائي ألصق الناس به وأحبهم إليه، وذلك احتفاظا بحقوق المسلم وما أبيح له أن يأتيه في بيته ورعايةً لحرمة النساء، وهذا أهم ما يطلب الاستئذان لأجله والاحتياط له، وكذلك المرأة في بيتها تظهر ما تستحيي من إظهاره خارجه، فلو أبيح للطارق أن يقتحم بيت غيره بلا استئذان أو يلج دارا غير داره بلا إيذان، لفاجأ آل البيت بما يكرهون واطلع منهم على ما لا يحبون، وقد يرى ربة البيت بحالة لا تصح أن تبديها للناس أو أن ترى عليها، أو يراها كاشفة لعورة لايجوز النظر إليها…..
نعم، إذا عرض أمر في دار من حريق أو هجوم سارق أو غير ذلك، مما يوجب إنقاذ أهل المنزل من نازلة سماوية أو أرضية، فيجوز دخول المنازل بغير إذن أصحابها، أو كان المحل غير مسكون كالفنادق وحوانيت البياعين، فعن أبي بكر رضي الله عنه أن قال: يا رسول الله، إن الله تعالى قد أنزل عليك آية في الاستئذان، وإنا نختلف في تجارتنا فننزل هذه الخانات أفلا ندخلها إلا بإذن؟ فنزل قوله تعالى: ﴿ لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴾.
ولا تفهم أن الأمر بالاستئذان الذي أمر الله به عباده المؤمنين خاص بالأجنبي فقط، كلا بل هو عام يشمل جميع المؤمنين، فقد روى الإمام مالك رضي الله عنه في الموطأ أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أستأذن على أمي؟ فقال: نعم، فقال الرجل: إني معها في البيت، يريد أنه مع أمه ساكنان في بيت واحد، والله يقول غير بيوتكم، فقال صلى الله عليه وسلم: استأذن، فقال الرجل: يا رسول الله إني خادمها، أي زيادة على كوني معها في البيت، وزيادة على كونها أمي، فقال صلى الله عليه وسلم: استأذن عليها، ثم لما رآه صلى الله عليه وسلم مجادلا نبهه على ما غفل عنه مما يقطع حجته، فقال: أتحب أن تراها عُريانة؟ قال: لا أحبّ ذلك، قال: فاستأذن عليها، لأنك إن دخلت عليها بدون استئذان قد تكون عريانة فتراها.
ولقد كلف الله الطفل إذا انتقل من عهد الطفولية أن يستأذن، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾، وهذه الآداب التي رسمها الله لعباده، لأن النظر إلى الأجنبيات رائد الفتنة ورسول الشر بين الجنسين، وبريد الزنا، والباب لكثير من المفاسد والشرور والوسيلة التي يتوسل بها الشيطان لإيقاع العبد في شرك العصيان وإبعاده عن طاعة الله، من أجل ذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إدامة النظر وإعادته بقوله لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة، فرب نظرة أودعت حسرة، وقال تعالى: النظرة سهم من سهام إبليس من تركها من مخافتي أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه، وقال عليه السلام ” من نظر إلى امرأة أجنبية حرام، تكون عيناه يوم القيامة بمسامير من نار”، فتحريم الشريعة الإسلامية للنظر للأجنبية تشريع حكيم، حازم، وأمر ضروري لازم فيه خذلان للشيطان في أول خطواته، وإفساد لتدبيراته، وقطع لمطامعه، وإبطال لوساوسه، ولذلك جعل الشارع غض البصر عن المحارم طهارة للإنسان من رجس الشيطان، ونظافة له من دنس العصيات، قال جل شأنه: ﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ ﴾، فسبحانك اللهم هذه سنة نبيك، وتلك آيات كتابك شاب الزمن وابيض فؤاده وهي لم تزل جذعة فتية، لم تعبث يد البِلا بجدتها، تصلح لكل زمان ومكان مهما توالت الأحقاب، ” وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا “.
إن الاستئذان الذي أمر الله به عباده المؤمنين لدخول بيوت غير بيوتهم مطلق، قيدته السنة بثلاث مرات حتى يستطيع آل البيت إصلاح ما يستقبحن رؤيته، وإخفاء ما يستحيين من إظهاره لطارق دخيل، أخرج البخاري مرفوعا ” إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع”، وأخرج البخاري ومسلم وأبو داوود والترمذي وابن ماجة عن جابر قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في دَيْن كان على أبي، فدققت الباب، فقال صلى الله عليه وسلم: من ذا؟ أي الذي يدق الباب، فقلت: أنا، فقال صلى الله عليه وسلم: أنا أنا، كأنه كرهها، لأن أنا وراء الباب نكرة لم تبين من بالباب، والمطلوب بيانه بذكر الإسم بأن يقول إذا قيل له من بالباب: أنا فلان أطلب فلانا أو أستأذنكم في الدخول إن كان دعي للدخول أم من القرابة لأهل البيت، وينبغي أن لا يستقبل الباب بوجهه بل يقف عن يمين الباب أوشماله، أخرج أبو داوود بسند حسن ” أن رجلا جاء يستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فقام على الباب مستقبل الباب، فخرج له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هكذا عنك وهكذا، أي قف وانتظر جانب الباب”، فإنما جعل الاستئذان من النظر، أي ليلاّ يطلع على عورة أهل البيت ويقع بصره على أحوالهم، وأخرج الطبراني في الكبير بسند جيد مرفوعا “لا تأتوا البيوت من أبوابها ولكن ائتوها من جوانبها فاستأذنوا، فإن أذن لكم فادخلوا، وإلا فارجعوا”، وأخرج البخاري ومسلم والنسائي واللفظ له مرفوعا ” من اطّلع في بيت قوم بغير إذنهم، ففقئوا عينه فلا دية له ولا قصاص”، وأخرج الإمام ” أيما رجل كشف سترا فأدخل بصره قبل أن يؤذن له، فقد أتى حدا لا يحل له أن يأتيه، ولو أن رجلا فقأ عينه لهدرت، ولو أن رجلا مر على باب لا ستر له فرأى عورة أهله فلا خطيئة عليه، إنما الخطيئة على أهل المنزل”.