الاحتكار والتطفيف في الكيل للدكتور محمد كنون الحسني

الاحتكار والتطفيف في الكيل للدكتور محمد كنون الحسني

الاحتكار والتطفيف في الكيل

يقول مولانا جل علاه:( وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ) وهم الذين بينهم الله بقوله: (الذين يظلمون أنفسهم) وغيرهم بهذا الشيء الطفيف الذي يأخذونه خيانة وسرقة، (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ) وأخذوا منهم بطريق الشراء أو غيره (يَسْتَوْفُونَ) لأنفسهم ما يأخذونه فيأخذونه وافيا وافرا زائدا، (وَإِذَا كَالُوهُمْ) أي وإذا كالوا للناس (أَو وَّزَنُوهُمْ) أي وزنوا للناس بطريق البيع لهم أو بغيره ( يُخْسِرُونَ) المكيال أو الميزان وينقصون الكيل أو الوزن فيعطون ما عليهم ناقصا خيانة وغشا، فهذا هو التطفيف لأنهم في الحالين يأخذون لأنفسهم شيئا طفيفا قليلا ولكنه عند الله عظيم، لأنه أكل أموال الناس بالباطل، ولأنه يبعث على أخلاق سيئة كالكذب والغش والخيانة وذهاب المروءة وضياع الأمانة بين الناس، لأن أكثر المعاملات على الوزن والكيل وقد يكون من وراء ذلك منازعات، وقد تنتهي بالعداوة والبغضاء أوالقتل أوالسجن، ولذلك أكثر الله تعالى في القرآن العظيم من آيات النهي عن التطفيف فقال: (وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ۚ) وقال: (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) وقال: (أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) وقال: (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)،  وقد نهى شعيب قومه عن التطفيف فلم ينتهوا فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم، لتطفيفهم الكيل و الميزان، وذلك من أعظم أنواع الغش المنهي عنه في قوله صلى الله عليه وسلم (من غشنا فليس منا)، وأنواع الغش كثيرة ولكن الكاسب بها خاسر والغني بها فقير، فإن قليل الحرام ليمحق كثير الحلال ولذلك قال تعالى:  ينذرهم ويخوف غيرهم من مثل عملهم، ألا يظن أولئك المطفقون الخائنون الذين يختلسون حقوق الناس بالباطل، أولائك المبعدون من رحمة الله، أولئك المبعدون من معنى الإنسانية و المروءة  والشهامة و الإيمان، الا يظنون أنهم يوم القيامة مبعوثون من قبورهم ليوم عظيم لمجازاتهم ومحاسبتهم .

وصح قوله  صلى الله عليه وسلم من جملة حديث: وما نقص قوم المكيال و الميزان أناسا لا قطع الله عنهم الرزق أي البركة فيه، ولا حكم قوم بغير حق إلا مشا فيهم الدم أي القتل، وصح من حديث آخر قوله: صلى الله عليه وسلم ولم ينقصوا المكيال و الميزان إلا أخذوا بالسنين، أي المجاعة والقحط وشدة المؤنة وجور الولاة، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم. وذكر الحافظان ابن حجر في الرواجز والقرطبي في التذكرة أن رجلا كان يزن كاملا فلما حضرته الوفاة قيل له قل لا إله إلا الله، فكان يقول ادعوا الله تعالى أن يهون على النطق بها، فإن لسان الميزان على لساني يمنعني من النطق بها لعدم مسحي كفة الميزان من كل قليل وعدم تفقدي الوسخ الذي يجتمع فيها من هبوب الريح، قال الحافظ فإذا كان هذا حال من لا يمسح كفة الميزان من كل قليل ولا يتفقد الوسخ الذي يجتمع فيها من هبوب الريح فكيف حال من يزن ناقصا، قال ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم لأهل الكيل و الوزن إنكم قد وليتم أمرا فيه هلكت الأمم السالفة قبلكم، وكالكيالين و الوازنين التاجر الذي يغش في قياس الأثواب أو الأراضي عند البيع أوالشراء.

وأعظم من هذا وذاك الاحتكار، وهو حبس التجار المبيعات والسلع في زمن رخائها و احتياج الناس إليها لأجل بيعها بالغلاء زمن قلتها وارتفاع ثمنها، وهو ذنب عظيم ومقت جسيم وعذابه في الآخرة أليم، فخير الناس من ينفع الناس وشر الناس من يضر بالناس، والمحتكر من جملة من يضر بالناس لأنه ينتظر القحط والغلاء ليروج سلعته وذلك موجب للعن وبراءة الله ورسوله منه، والضرب بالجذام والإفلاس وغيرها مما رود في أحاديث منها ما في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: من احتكر طعاما فهو خاطئ، أي آثم، وفي رواية من احتكر حكرة أي جملة من القوت يريد أن يغلي بها على المسلمين فهو خاطئ، أي آثم، وفي رواية فهو ملعون وقد برئت منه ذمة الله ورسوله، وقوله: من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس، وانما خصهما لأن المحتكر أراد إصلاح بدنه وكثرة ماله فأفسد بدنه بالجذام وماله بالافلاس، و قوله: الجالب مرزوق والمحتكر أي الحابس في زمن الغلاء ما يحتاج الناس لبيعه ليبيعه بأغلى ملعون، وفي رواية التاجر أي الصدوق الأمين ينتظر الرزق أي يرضى بالربح القليل، والمحتكر أي الذي ينتظر الغلاء ينتظر اللعنة، وقوله: من تمنى على أمتي الغلاء ليلة واحدة أحبط الله عمله أربعين سنة، وقوله: من احتكر على أمتي طعاما أربعين ليلة وتصدق به لم يقبل منه، يعني لم يكن كفارة لإثم الاحتكار مع الضرورة والاحتياج، وقوله: من احتكر طعاما أربعين ليلة يعني مع حاجة الناس إليه فقد برئ من الله وبرئ الله منه، وأيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعا فقد برئت منهم ذمة الله، وقوله: بيس العبد المحتكر، إن أرخص الله الأسعار حزن وإن غلاها فرح، وقوله: يحشر المحتكرون أي في وقت الحاجة والضرورة وقتلة الانفس في درجة واحدة، ومن دخل في شيء من أسعار المسلمين يغليه عليهم كان حقا على الله أن يعذبه في معظم النار يوم القيامة، وفي رواية من دخل في شيء من أسعار المسلمين يغليه عليهم كان حقا على الله أن يقذفه في جهنم رأسه أسفله.

 فمن كانت فيه هذه الخصلة من التجار والمتسببين فليتب إلى الله منها وليبتغ فيما أتاه الله الدار الاخرة، وليسع جهده في نفع المسلمين ورفع الضرر عنهم سيما وقت الحاجة والاضطرار، وليكن رحيما بهم، ففي الحديث: الراحمون يرحمهم الرحمان ارحموا من في الارض يرحمكم من في السماء، وفيه أيضا: لا توضع الرحمة إلا في قلب تقي ولا تنزع إلا من قلب شقي، وفيه أيضا لن تومنوا حتى تراحموا، قالوا كلنا رحيم؟ قال إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكنها رحمة العامة، وفيه ايضا: الخلق عيال الله وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله، وفيه أيضا يقول الله تعالى: إن كنتم تريدون رحمتي فارحموا خلقي، وفيه أيضا: ارحموا ترحموا واغفروا يغفر لكم.