
ذكرى الإسراء والمعراج ـ 2 ـ للدكتور محمد كنون الحسني
ذكرى الإسراء والمعراج ـ 2 ـ للدكتور محمد كنون الحسني
ذكرى الإسراء والمعراج
ـ 2 ـ
تحدثنا في العدد الماضي عن هذه الذكرى العظيمة, والمعجزة الباهرة التي خص بها الله سبحانه وتعالى نبينا صلى الله عليه وسلم، واستعرضنا الأحاديث الواردة في هذا الحديث الكبير, من خروجه صلى الله عليه وسلم من بيته إلى صلاته ببيت المقدس, ثم صعوده صلى الله عليه وسلم على المعراج حيث صعد صلى الله عليه وسلم وعن يمينه ملائكة وعن يساره ملائكة حتى انتهيا إلى باب من أبواب السماء الدنيا يقال لها ” باب الحفظة” وعليه ملك يقال له إسماعيل وهو صاحب سماء الدنيا, وعند البيهقي من حديث جعفر بن محمد يسكن ـ أي هذا الملك الذي اسمه إسماعيل ـ الهواء لم يصعد إلى السماء قط ولم يهبط إلى الأرض قط, إلا يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم, وبين يديه سبعون ألف ملك, مع كل ملك جنده مائة ألف فاستفتح جبريل باب السماء، قيل من هذا؟ قال: جبريل, قيل ومن معك؟ قال: محمد, قيل: أو قد أرسل إليه؟ قال: نعم, قال: مرحبا به وأهلا حياه الله من أخ وخليفة, فنعم الأخ ونعم الخليفة, ونعم المجيء جاء, ففتح لهما فدخلا، فإذا فيها آدم كهيئته يوم خلقه الله على صورته, أي على غاية من الحسن والجمال، طوله ستون ذراعا, تعرض عليه أرواح ذريته المومنين, فيقول: روح طيبة ونفس طيبة من جسد طيب, اجعلوها في عليين, وتعرض عليه أرواح ذريته الكفار، فيقول روح خبيثة خرجت من جسد خبيث اجعلوها في سجين, وعن يمينه أسودة وباب يخرج منها ريح طيبة, وعن شماله أسودة وباب يخرج منها ريح خبيثة, فإذا نظر قبل يمينه ضحك واستبشر، وإذا نظر قبل شماله حزن وبكى, فسلم عليه النبي صلى الله عليه وسلم,فرد عليه السلام ثم قال: مرحبا بالإبن الصالح والنبي الصالح, فقال النبي صلى الله عليه وسلم, ياجبريل من هذا؟ فقال: هذا أبوك آدم وهذه الأسودة أرواح بنيه, فأهل اليمين منهم أهل الجنة, وأهل الشمال منهم أهل النار, فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى, وهذا الباب الذي عن يمينه باب الجنة والباب الذي عن شماله باب النار. ثم صعد إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل فقيل له وقال كما مر في السماء الأولى, ففتح لهما فلما خلصا فإذا هو بابني الخالة عيسى ابن مريم ويحيى بن زكرياء عليهما السلام, فسلم عليهما فرد عليه السلام, ثم قالا مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ودعوا له بخير. ثم صعد إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقال وقيل له كالسماء الأولى والثانية سؤالا وجوابا, ففتح لهما فلما خلصا, فإذا هو بيوسف فسلم عليه فرد عليه السلام ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ودعا له بخير. ثم صعد إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل فقال وقيل له كما تقدم, وفتح لهما فلما خلصا فإذا هو بإدريس رفعه الله مكانا عليا, فسلم عليه فرد عليه السلام, ثم قال مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ودعا له بخير. ثم صعد إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل فقال وقيل له كما تقدم, وفتح لهما فلما خلصا فإذا هو بهارون ونصف لحيته بيضاء ونصف لحيته سوداء تكاد تضرب إلى سرته من طولها, فسلم عليه فرد عليه السلام, ثم قال مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ودعا له بخير, فقال: ياجبريل من هذا ؟ قال: هذا الرجل المحبب في قومه هارون ابن عمران. ثم صعد إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل فقال وقيل له كما مر, ففتح لهما فلما خلصا جعل يمر بالنبي والنبييين معهم الرهط, والنبي والنبيين ليس معهم أحد, ثم مر بسواد عظيم فقال من هذا ياجبريل؟ قال: موسى وقومه, ولكن ارفع رأسك فإذا بسواد عظيم قد سد الأفق من ذا الجانب ومن ذا الجانب, فقيل له هذه أمتك, ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب, فلما خلصا فإذا بموسى ابن عمران, فسلم عليه فرد عليه السلام ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم دعا له بخير, وقال: يزعم الناس أني أكرم على الله من هذا, بل هذا أكرم على الله مني. ثم صعد إلى السماء السابعة فرآ فوقه رعدا وبرقا وصواعق فاستفتح جبريل فقال وقيل له كما مر بأبواب السموات السبع, ففتح لهما فلما خلصا فإذا بإبراهيم الخليل جالسا عند باب الجنة, أي في وجهتها مسندا ظهره إلى البيت المعمور, فسلم عليه النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام وقال: مرحبا بالإبن الصالح والنبي الصالح, وقال له: مر أمتك أن يكثروا من غراس الجنة فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة, فقال وما غراس الجنة, قال: لاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم, وفي رواية إقرأ أمتك مني السلام, وأخبرهم أم الجنة طيبة التربة عذبة الماء, وأن غرسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر,ودخل صلى الله عليه وسلم البيت المعمور, وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لا يعودون إليه إلى يوم القيامة, ثم رفع إلى سدرة المنتهى, وإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير ءاسن, وأنهار من لبن لم يتغير طعمه, وأنهار من خمر لذة للشاربين, وأنهار من عسل مصفى, يسير الراكب في ظلها سبعين عاما لايقطعها, وفي رواية لو أن الورقة الواحدة منها ظهرت لغطت هذه الدنيا, على كل ورقة ملك, فغشيها لا يدري ماهي, قال تعالى: ( ولقد رءاه نزلة أخرى, عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى)النجم 16 , فإذا غشيها من الله ما غشى تغيرت, فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها, زاد في رواية تلوذ بها جراد من ذهب. ثم دخل الجنة فإذا فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر, فرآ على بابها مكتوبا: الصدقة بعشر أمثالها, والقرض بثمانية عشر, فقال ياجبريل: ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال: لأن السائل يسأل وعنده, والمستقرض لا يستقرض إلا عن حاجة. ثم عرضت عليه النار فإذا فيها غضب الله وزجره ونقمته, لو طرح فيها الحجارة والحديد لأكلتها, ثم رفع فوق سدرة المنتهى ورآ رجلا مغيبا في ظل العرش, فقال من هذا, أملك؟ قال: لا, قال: أنبي؟ قال: لا, قال من هذا؟ قال هذا رجل كان في الدنيا لسانه لايفتر عن ذكر الله, وقلبه معلق بالمساجد, ولم يستسب والديه قط, ولما رفع صلى الله عليه وسلم فوق سدرة المنتهى غشيته سحابة فيها من كل لون, فتأخر جبريل وزج به في النور, ويعبر عن تلك السحابة بالرفرف, وهو نظير المحفة عندنا, وروي أنه لما وقف جبريل قال له النبي صلى الله عليه وسلم: في مثل هذا المقام يترك الخليل خليله؟ فقال له: إن تجاوزت مقامي احترقت بالنور, فقال النبي صلى الله عليه وسلم ياجبريل: هل لك من حاجة إلى ربك؟ قال يامحمد: سل ربك لي أن أبسط جناحي على الصراط لأمتك حتى يجوزوا. قال عليه السلام: ثم عرج بي حتى ظهرت بمستوى أي فيه أو عليه, والمستوى المكان العالي, حيث سمع صرير الأقلام في تصاريف الأقدر, أي صوت حركتها حال الكتابة, وفي رواية فخرقت سبعين ألف حجاب ليس فيها حجاب يشبه الآخر غلظ كل حجاب خمسمائة عام, وانقطع عني حس كل ملك, فلحقني عند ذلك استيحاش, فإذا النداء من العلي الأعلى, أذن ياخير البرية, أذن يامحمد, فأدناني ربي حتى كنت كما قال: (ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو ادنى), فرآ ربه تعالى فخر النبي صلى الله عليه وسلم ساجدا, وكلمه ربه عند ذلك فقال له يامحمد: قال: لبيك يارب, فقال سل؟ فقال: إنك اتخذت إبراهيم خليلا وأعطيته ملكا, وكلمت موسى تكليما, وأعطيت داوود ملكا عظيما وألنت له الحديد وسخرت له الإنس والجن والشياطين وسخرت له الجبال, وأعطيت سليمان ملكا عظيما, فقال له الله تعالى: قد اتخذتك حبيبا وأرسلتك للناس كافة بشيرا ونذيرا, وشرحت لك صدرك ووضعت عنك وزرك ورفعت لك ذكرك, لا أذكر إلا ذكرت معي, وجعلت أمتك أمة وسطا, وجعلت أمتك لاتجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي, وجعلت من أمتك أقواما قلوبهم أناجيلهم, وجعلتك أول النبيئين خلقا وآخرهم بعثا وأولهم يقضى له, وأعطيتك سبعا من المثاني لم أعطها نبيا قبلك, وأعطيتك الكوثر.. إلى أن قال: وإني يوم خلقت السماوات والارض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة فقم بها وأمتك, ولما كان صلى الله عليه وسلم في هذا المقام قال الله تعالى: يامحمد, وأين حاجة جبريل؟ قال: فقلت اللهم إنك أعلم يامحمد قد أجبته فيما سأل, ولكن لمن أحبك وصحبك. ثم انجلت عنه تلك السحابة عند وصوله إلى سدرة المنتهى, وهو المحل الذي وقف فيه جبريل, فأخذ بيده جبريل فانصرف سريعا, فأتى على إبراهيم فلم يقل له شيئا, ثم أتى على موسى قال ونعم الصاحب لكم, فقال: ما صنعت يامحمد؟ ما فرض ربك عليك وعلى أمتك؟ قال: فرض علي وعلى أمتي خمسين صلاة كل يوم وليلة، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف عنك وعن أمتك, فإن أمتك لا تطيق ذلك, وإني والله قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة على أدنى من هذا فضعفوا وتركوه, وأمتك أضعف أجسادا وأبدانا وأبصارا وأسماعا, فالتفت إلى جبريل يستشيره, فأشار إليه جبريل, أن نعم إن شئت, فرجع وقال: رب خفف عني فوضع عنه خمسا, فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل التخفيف حتى قال الله تعالى: يامحمد, قال لبيك وسعديك, قال: هي خمس صلوات في كل يوم وليلة, بكل صلاة عشر, فتلك خمسون صلاة لا يبدل القول لدي ولا ينسخ كتابي تخفيفا عنك, فلما رجع قال له موسى: ارجع فاسأل ربك التخفيف, فإن أمتك لا تطيق ذلك, فقال: قد راجعت ربي حتى استحييت منه ولكن أرضى وأسلم, فنادى مناد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي, فقال له جبريل اهبط باسم الله. ثم انحدر صلى الله عليه وسلم, فقال ياجبريل: مالي لم آت أهل سماء إلا رحبوا بي وضحكوا إلى غير واحد سلمت عليه فرد علي السلام ورحب بي ودعا لي بخير ولم يضحك إلي؟ قال: ذلك مالك خازن النار, لم يضحك منذ خلق, ولو ضحك لأحد لضحك إليك, ثم وصل صلى الله عليه وسلم إلى مكة قبل الصبح, وكان مقدار غيبته عنها ثلاث ساعات. ثم أضحى يحدث الناس بما أنعم له عليه به في ليلته.