التضامن كمال إنساني للدكتور كنون الحسني
التضامن كمال إنساني للدكتور كنون الحسني
التضامن كمال إنساني
إن البذل والعطاء يرقى بالإنسان ويرفعه إلى مصاف الكمال الروحي والنفسي مصداقا لآيات توحي بأن الهوى يمكن أن يتخذ إلها، وأن المال الذي يستولي على ضمير الإنسان قد يكون حجابا، لذلك أمر الله رسوله بأن يأخذ من المؤمنين صدقة يطهرهم بها ويزكيهم ويرفعهم إلى مستوى عال من الإنسانية والتعبد والتوحيد، لأن البخل ينطوي على عدم الإقرار بأصل العطاء الذي هو من صفاة الله سبحانه وتعالى، فعطاء الله تعالى هو العطاء الكامل، الواسع، الأعم، ولهذا سمي رزقا، أما عطاء الإنسان مما رزقه الله فيسمى إنفاقا، وهو الامتداد الطبيعي لعطاء الله سبحانه، وكل إمساك من قبيل البخل إخلال بهذا القانون، وعطاء الله شامل لكل المخلوقات، وشامل لكل البشر بمقتضى قوله تعالى: ” كلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِن عَطاءِ ربِّك”
وبهذا ينبغي أن يكون العطاء في مقدمة أعمال التدين، أي أن الإنسان يعبد الله عن طريق إسداء الخير للغير قبل كل شيء، كيفما كان هذا الخير وكيفما تم هذا العطاء، سواء كان بالمال أو بالعلم أو بالنصيحة، أو بالمساعدة أو بالعفو عند المقدرة، أو بأي شكل من أشكال التضامن والبذل والإنفاق في سبيل الله، ومن أجل مرضاة الله، وإخلاصا لله دون انتظار لجزاء أو مكافأة أو أجر، وابتعادا عن البخل الذي هو مصدر الشرور كلها، مصداقا لقوله تعالى: ” وَمَن يُّوقَ شُحَّ نفسه فأُولاَئِك هُمُ المُفلِحون” لأن العبرة في حكم الله بما تنعقد عليه النوايا والضمائر لا بما يرى من الأفعال والمظاهر، وبهذا يرتفع العبد عن النفاق الاجتماعي والتكبر المظهري والرياء في الدين، ويتخلص من الأمراض النفسية والعلل المهلكة للأخلاق والقيم والدين. فالغنى مع البخل دليل على فساد في الدين واستعلاء على الحق، وطغيان في الدنيا، مصداقا لقوله تعالى: “إِنَّ الإنسان ليَطغى أن رَآهُ استَغْنى”، لأن البخل بشتى أنواعه يجر إلى اختلالات في نظام العالم، وعلاجه لا يكون إلا بالإنفاق، والعطاء المطلوب فضيلة نفسية وروحية لا ترتبط حصريا بالمال، لأن النفقة قد تكون كلمة طيبة وقد تكون إفشاء سلام وقد تكون خدمة أو مجرد إحساس كريم تجاه الآخر، بل ويشمل الإنفاق حتى اللذة إن كانت من حلال، لقوله صلى الله عليه وسلم ( …. وفي بضع أحدكم صدقة ) فللإنفاق في سبيل الله سبل مختلفة وطرق متنوعة، لكن الدعوة إليه واحدة والابتعاد عنه يكون سببا في غضب الله وفي مصائب مختلفة، مصداقا لقوله تعالى: هَا أنتم هَؤُلاء تُدعَوْن لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يَّبخَلُ ومن يَّبخلْ فإنَّما يبخلُ عن نَّفسهِ واللهُ الغنيُّ وأنتمُ الفُقراء وإِن تَتَولَّوْا يستبدل قوماً غيرَكم ثمَّ لا يكونُوا أمثَالكم”، محمد 3
والعطاء هو أكبر دليل على أن المعطي قد تخلص من الشرك الخفي الذي يتسرب إلى القلب من حب المال وحب النفس وحب الدنيا، فإذا كان التوحيد هو الركن الأعظم في الدين، وشرط الإقرار به شهادة أن لا إله إلا الله، فإن التخلص من هوى النفس الذي يستولي على القلوب ويسلبها حلاوة التعبد والإخلاص لله سبحانه وتعالى في الأقوال والأفعال، يعتبر أساسيا في كمال الاعتقاد وجمال الأعمال، وقد ذكر الغزالي أن التوحيد أربع مراتب، فالأولى إقرار اللسان مع غفلة القلب، وهو توحيد المنافقين، والثانية إقرار اللسان وتصديق القلب بمعنى اللفظ وهو اعتقاد العوام، والثالثة، أن يرى الأشياء على كثرتها صادرة عن البارئ الواحد، ويحصل ذلك بكشف يوجهه نور الحق، وهو توحيد المقربين، والرابعة، وهي ألا يرى في الوجود إلا واحدا وأن يستغرق بالتوحيد عن النفس والخلق، وهو مقام الصديقين، وهذا لا يعني بأي حال ما يفهم عادة من وحدة الوجود.
ويحسن العطاء ويعظم بل ويتأكد عند ظهور الحاجة خاصة كانت أم عامة كمريض فقير يحتاج إلى علاج، أو مجاعة شاملة نتيجة قحط وجدب ، ولقد قال تعالى: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) فهو سبحانه وتعالى لا يريدنا ان ننفق كل أموالنا في سبيله، إنما يريد بعضها، فالقرض هو الاقتطاع، ولعل في الكلمة إشارة إلى الصعوبة التي يواجهها الإنسان عند الانفاق من حر ماله ومما اكتسبه بعناء وتعب، ثم هو سبحانه لا يريد أي إنفاق، انما الإنفاق الحسن. ولا يكون كذلك إلا إذا اشتمل على المواصفات التالية:
1- أن يكون حلالا لقوله عز وجل: (انفقوا من طيبات ما كسبتم) وقال أيضا: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) ذلك أن الناس كانوا حيث أسلموا عندهم مكاسب من الربا ومن أموال خبيثة، فكان الرجل يتعمدها من بين ماله فيتصدق بها. فنهاهم الله عن ذلك، ووضح أن الصدقة لا تصلح الا من كسب طيب.
2- أن يكون خالصا لوجه الله تعالى، وقد قال جل وعلا: (إنما يتقبل الله من المتقين). إذ أن كل عمل لا بد له من غاية وهدف، ولا بد له من نية، ولا بد من إخلاص لله في هذه النية، أما إذا أنفق الإنسان تزلفا أو طمعا في منصب، أو رئاء الناس ، فهذا ليس قرضا حسنا، انما هو سيء يستوجب العقاب، لأنه قد يكون طريقا إلى الفساد والإفساد في المجتمع.
3- ان يصيب الإنفاق موارده المشروعة، فيكون الإنسان أقرض الله بالفعل. فليس مطلوبا منك ان تفتش عن عقائد الناس وتحقق معهم، ولكن ينبغي لك ان تعلم اين تضع ما تريد إنفاقه. وفي الحديث (لاتزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال : عن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه ، وفيما أنفقه ، وعن علمه ماذا عمل فيه) فالثواب يكون على النية، والإنسان مطالب ان يعمل بالظاهر. ولكنه إذا أخلص نيته وأصاب هدفه، فهو أجزل ثوابا من الذي يخلص ولا يصيب.
وزوجة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله خديجة بنت خويلد رضي الله عنها أسوة حسنه لنا، إذ وهبت ما تملكه من أموال طائلة وثروة كبير للإسلام إبتغاء مرضاة الله تعالى وجهادا في سبيله.
العطاء برهان على صدق الإيمان واليقين الكبير في الله ، مصداقا لقوله تعالى: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ )، ولا يغرنك الشيطان بالدنيا فتحرص على جمع المال، وتبخل بإنفاقه في سبيل الله خوفا من الفقر والحاجة فقد قال عز من قائل: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ۖ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ).
وبهذا نجد الإسلام قد حث على التضامن والتآخي ورسخ أسس الإحسان والعطاء في نصوص كثيرة وأشكال مختلفة ، جعلت الناظر في مبادئ الاقتصاد الإسلامي يجد أن الإسلام وضع العطاء في درجتين:
- العطاء الإلزامي الواجب المفروض والذي يجبر المسلم على القيام به ويتمثل في:
- الزكاة المفروضة الواجبة على الأغنياء في المال والتجارة والماشية.
- النفقة على أهل القرابة حيث يجب على كل غني يتوفر على فضل بعد كفاية حاجته وحاجة أهله، أن ينفق على قريبه الوارث له إذا كان فقيرا عاجزا عن الكسب.
- مستوى التساكن والأخوة في الله والإنسانية بحيث يجب على كل غني أن يكفي حاجة المضطر والجار والضيف، والمحتاج للانتفاع بمال الغير في المركب والماعون مثلا، كما يجب على من حصل على ثروة جديدة عن طريق الاستغلال الفلاحي أو عن طريق الإرث أن يسد حاجة من يحضرون حصوله عليها لقوله تعالى: ” وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه”
- عطاء إحساني: يتكون من صور مختلفة منها الصدقة والهبة والوصية والكفالة والنذر والالتزام والوعد، والنصيحة والمساعدة….. .