تأملات في سورة الفاتحة للدكتور محمد كنون الحسني

تأملات في سورة الفاتحة   

في كل يوم وليلة تصلون خمس صلوات فريضةً من الله، ويجب عليكم في كل ركعة من ركعات تلك الصلوات قراءة سورة هي من خير سور كتاب الله، يحفظها جميع المسلمين، إنها سورة الفاتحة التي خصها الله في كتابه بأكثر من إسم ووصف، وامتدحها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما تضمنته من عظيم المعاني، وجليل الدلالات، وأبلغ العبارات في توحيد الله وتعظيمه وتحميده.

إن سورةً تبلغ أهميتها أن من تركها في الصلاة بطلت صلاته لحقيقة بالاهتمام، وجديرةٌ بالتعلم، وأهلٌ لأن يدرس المسلمون تفسيرها، ويتفهموا معانيها، ويتواصوا لتحصيل لطائفها وأسرارها. فمما يُعاب على المسلم أن يظل سنين طويلة يردد هذه السورة عشرات المرات في اليوم والليلة ومع ذلك لا يحسن تفسيرها، ولا يدري مالمراد منها!.وهذا يؤدي إلى عدم الخشوع في الصلاة، وإلى خلل في النطق بآياتها وأحرفها.

   سُورَةُ الفَاتِحَةِ سُورَةٌ مَكِّيَّةٌ كَرِيمَةٌ، فَضَائِلُهَا كَثِيرَةٌ عَظِيمَةٌ، لَهَا عِدَّةُ أَسْمَاءٍ، وَكَثْرَةُ أَسمَائِها دَليلٌ سَاطِعٌ وَبُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى تَعَدُّدِ فَضَائِلهَا، فَمِنْ أَسمَائِهَا الفَاتِحَةُ؛ لافتِتَاحِ القُرآنِ العَظِيمِ بِهَا، وَمِنْ أَسمَائِهَا أُمُّ الكِتَابِ، لاشتِمَالِهَا عَلَى مَا جَاءَ فِي الكِتَابِ الكَرِيمِ وَالقُرآنِ العَظِيمِ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَوحِيدِهِ وَتَعظِيمِهِ وَتَحْمِيدِهِ، وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَمِنْ أَسمَائِهَا السَّبْعُ المَثَانِي لأَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ مُبَارَكَاتٍ، تُثنَّى – أَيْ تُكَرَّرُ- فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ، وَمِنْ أَسمَائِهَا الصَّلاَةُ كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ القُدُسِيِّ، يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ((قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْـفَيْنِ: نِصْـفُهَا لِي وَنِصْـفُهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ العَبْدُ: الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ؛ فَيَقُولُ اللهُ: حَمَدَنِي عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ العَبْدُ: الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ؛ فَيَقُولُ اللهُ: أَثْنَى عَليَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ العَبْدُ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ؛ فَيَقُولُ اللهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ العَبْدُ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَستَعِينُ؛ فَيَقُولُ اللهُ: هَذِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، وَإِذَا قَالَ العَبْدُ: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، صِرَاطَ الذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ؛ فَيَقُولُ اللهُ: هَذِهِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ)).

 وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْـلِ سُورَةِ الفَاتِحَةِ آثَارٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بنُ المُعلَّى أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-قَالَ لَهُ: ((لأُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي القُرآنِ قَبْـلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ))، قَالَ: فَأَخَذَ بِيَدِي فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ قُلْتَ لأُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ مِنَ القُرآنِ، قَالَ: ((نَعَمْ ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) ، هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي وَالقُرآنُ العَظِيمُ الذِي أُوتِيتُهُ”

   لَقَدِ افتَتَحَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ سُورَةَ الفَاتِحَةِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى اللهِ بِالحَمْدِ مَعَ وَصْـفِهِ سُبْحَانَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ المُطْلَقِةِ ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))، وَفِيهَا دَعْوَةٌ إِلَى التَّوحِيدِ الخَالِصِ الكَامِلِ الشَّامِلِ، إِنَّهُ تَوحِيدٌ، لاَ تَشُوبُهُ شَائِبَةٌ مِنْ قَرِيبٍ وَلاَ بَعِيدٍ، اعتراف بربوبية الله، إعتراف بقدرته، اعتراف بفضله ونعمه، إنها عقيدة المسلم التي ينبني عليها كل شيء، فَالحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ فِي اليَقَظَةِ وَالنَّوْمِ، وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ وَلَحْظَةٍ مِنَ اليَوْمِ، وَالحَمْدُ للهِ فِي الحِلِّ وَالتَّرْحَالِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، إِذْ كَيْفَ يُحْمَدُ غَيْرُهُ وَالخَلْقُ خَلْقُهُ وَالخَيْرُ خَيْرُهُ؟ إِنَّ المُؤمِنَ مُطَالَبٌ بِحَمْدِ اللهِ؛ لأَنَّ العَيْنَ لاَ تَقَعُ إِلاَّ عَلَى آيَاتِهِ وَآلاَئِهِ، وَالقَلْبُ لاَ يَتَعلَّقُ إِلاَ بِسَنَا بَهَائِهِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-يَحْمَدُ اللهَ وَيَذْكُرُهُ، وَيُمَجِّدُهُ وَيَشْكُرُهُ، بِأَقْصَى مَا يَمْـلِكُ مَنْطِقُهُ الكَرِيمُ مِنْ عَدَدٍ، وَمَا يُعَانُ بِهِ مِنْ مَزِيدِ مَدَدٍ، وَلْنَستَمِعْ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-وَهُوَ يَحْمَدُ اللهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ فَيَقُولُ: ((اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ مِلءَ السَّماواتِ وَمِلءَ الأَرْضِ وَمِلءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيءٍ بَعْدُ، أَهلَ الثَّنَاءِ وَالمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ العَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ))، إِنَّ نِعَمَ اللهِ عَلَى الإِنْسَانِ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ وَلاَ مُحَدَّدةٍ، وَهِيَ دَائِمَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ، لأَنَّهَا نِعَمٌ تَصِلُ إِلَيْنَا مَعَ كُلِّ خَفْقَةِ قَلْبٍ وَتَرَدُّدِ نَفَسٍ، فَلْيُلاَزِمِ الإِنْسَانُ الحَمْدَ بِكُلِّ إِخْلاَصٍ وَيَقِينٍ، حتَّى يَأْتِيَهُ اليَقِينُ. إِنَّ المُؤمِنَ حِينَ يُلْهَمُ الحَمْدَ عَلَى نِعْمَةٍ مَا؛ فَإِنَّ مَا أُلهِمَهُ خَيْرٌ مِنَ النِّعْمَةِ ذَاتِهَا، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-: ((مَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَقَالَ: ” الحَمْدُ للهِ ” إِلاَّ كَانَ الذِي أَعْطَى أَفْضَلَ مِمَّا أَخَذَ))، ذَلِكَ لأَنَّ ثَوَابَ الحَمْدِ لاَ يَفْنَى، وَنَعِيمَ الدُّنْيَا لاَ يَبقَى، فَمَا أَحْسَنَ أَنْ يَبْدأَ الإِنْسَانُ بِـ(بسْمِ اللهِ) وَ(الحَمْدُ للهِ) أَعْمَالَهُ؛ وَيُصدِّرَ بِهَا أَقْوَالَهُ.

 يَتَكَرَّرُ فِي سُورَةِ الفَاتِحَةِ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ الإِلهِيَّةِ بِاسمَيْنِ عَظِيمَيْنِ مِنْ أَسمَاءِ اللهِ الحُسْنَى، وَصِفَتَيْنِ مِنْ صِفَاتِهِ العُلْيَا، وَهُمَا ((الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ))، لأَنَّ رَحْمَتَهُ سُبْحَانَهُ عَمَّتِ الوُجُودَ، وَشَمِلَتِ كُلَّ مَوْجُودٍ، وَمِنَ الرَّحمَةِ الإِلَهِيَّةِ تَنْبُعُ كَثِيرٌ مِنْ صِفَاتِ الكَمَالِ، وَالجَلاَلِ وَالجَمَالِ، فَمِنْ رَحمَةِ اللهِ كَرَمُهُ وَفَضلُهُ، وَحِلْمُهُ وَعَفْوُهُ، وَمَنُّهُ وَعَطَاؤُهُ، وَمَنْ أَرَادَ اللهُ لَهُ الخَيْرَ وَالتَّوفِيقَ، وَسُلُوكَ أَقْوَمِ سَبِيلٍ وَأَيْسَرِ طَرِيقٍ، نَالَ مِنْ هَذِهِ الرَّحمَةِ نَصِيبًا، فَكَانَ رَحِيمًا بِكُلِّ النَّاسِ، عَلَى مُختَلَفِ الأَلوَانِ وَالأَجْنَاسِ، وَقَدْ حَفَلَتْ أَوَامِرُ الإِسْلاَمِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى التَّرَاحُمِ العَامِّ، الذِي بِتَحقِيقِهِ يُقَدِّمُ المُؤمِنُ الدَّلِيلَ وَالبُرهَانَ عَلَى صِدْقِ الإِيمَانِ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-: ((لَنْ تُؤمِنُوا حتَّى تَراحَمُوا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كُلُّنَا رَحِيمٌ، قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِرَحْمَةِ أَحَدِكُمْ صَاحِبَهُ، وَلَكِنَّهَا رَحْمَةُ العَامَّةِ))، وَقَالَ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-: ((مَنْ لاَ يَرْحَمِ النَّاسَ لاَ يَرحَمْهُ اللهُ))، إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعالَى تَكَرَّمَ عَلَى عِبَادِهِ بِجُزْءٍ يَسيرٍ مِنْ رَحْمَتِهِ التِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيءٍ، فَبِهَذَا الجُزْءِ تَتَراحَمُ الخَلاَئِقُ فِيمَا بَيْنَها، فَيَرْحَمُ الكَبِيرُ الصَّغِيرَ، وَالقَوِيُّ الضَّعِيفَ، وَيَتَراحَمُ الإِنْسَانُ وَالطَّيْرُ وَالحَيَوانُ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-: ((جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ مَائةَ جُزْءٍ وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الجُزْءِ تَتَراحَمُ الخَلاَئِقُ حتَّى تَرفَعَ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ)). إِنَّ صِلَةَ الإِنْسَانِيَّةِ القَائِمَةَ يَجِبُ أَنْ تَقْوَى بِالرَّحْمَةِ المُستَمِرَّةِ الدَّائِمَةِ، فَيَحُلُّ بَيْنَ النَّاسِ الحُبُّ بَدَلَ البُغْضِ، وَالإِخَاءُ بَدَلَ الجَفَاءِ، وَالقُرْبُ بَدَلَ البُعْدِ، بِهَذَا يَعِيشُ النَّاسُ آمِنينَ، وَيُبَاشِرونَ أَعْمَالَهُمْ سُعَدَاءَ مُطْمَئنِّينَ، إِنَّ الرَّحْمَةَ إِذَا حَلَّتْ وَاستَقَرَّتْ، أُقْصِيَتِ القَسْوَةُ وَانْدَثَرَتْ، فَعَمَّتِ الخَيْرَات وَكَثُرَتْ.

ثم قال سبحانه: ” مَلكِ يَوْمِ الدِّينِ”،  الذي يتصف وحده بصفة الملك التي من آثارها أن يأمر وينهي، ويثيب ويعاقب، ويتصرف بجميع أنواع التصرفات، وقد أضاف الله تعالى الملك ليوم الدين وهو يوم القيامة يوم يُدان الناس بأعمالهم، أي يُجازون عليها؛ والسببُ في إضافة الملك ليوم الدين أن في ذلك اليوم يظهر للخلق كمال ملكه وعدله وحكمته، وانقطاع أملاك الخلائق، حتى يستوي في ذلك اليوم الملوك والرعايا والعبيد والأمراء، إِنَّ مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ وَاحَدٌ أَحَدٌ عَدْلٌ، لاَ يُهْضَمُ عِنْدَهُ حَقٌّ، وَلاَ يُظلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ.

إِنَّ المُؤمِنَ التَّالِيَ لِسُورَةِ الفَاتِحَةِ، المُتَدبِّرَ لآيَاتِهَا، المُستَجِيبَ لِتَوجِيهَاتِهَا، يَعْـلَمُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ رَبُّ العَالَمِينَ، وَهُوَ الرَّحمَنُ الرَّحِيمُ، وَهُوَ مَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ، فَهُوَ إذَنْ وَحْدَهُ المَعْبُودُ وَالمُستَعَانُ،إنها العقيدة الصحيحة التي هي أصل كل عبادة، وَلِذَلِكَ قَالَ اللهُ بَعْدَهَا: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))، أي: لاَ نَعْبُدُ يَا رَبُّ إِلاَّ إِيَّاكَ، وَلاَ نَستَعِينُ بِأَحَدٍ سِوَاكَ، وَعِبَادَةُ اللهِ المَقْصُودَةُ هِيَ العِبَادَةُ بِمَفْهُومِهَا الأَشْمَلِ وَالأَعَمِّ، التِي تَشْمَلُ كُلَّ عَمَلٍ دِينِيٍّ ودُنْيَوِيٍّ، يُؤَدِّيِهِ المُؤمِنُ مَعَ إِحْسَاسِهِ بِأَنَّ اللهَ عَلَيْهِ رَقِيبٌ، وَلَهُ حَسِيبٌ، وَمِنْهُ قَرِيبٌ، كَمَا تَشَمَلُ تَخْلِيَةَ النَّفْسِ عَنِ الرَّذَائِلِ وَتَحْـلِيَتَها بِالفَضَائِلِ، فَالتَّاجِرُ وَالصَّانِعُ وَالمُزَارِعُ وَالمُوظَّفُ وَكُلُّ صَاحِبِ عَمَلٍ شَرِيفٍ هُوَ للهِ ذَاكِرٌ وَلَهُ عَابِدٌ، مَا دَامَ مُلْتَزِمًا فِي عَمَلِهِ بِالصِّدقِ وَالأَمَانَةِ، وَالعِفَّةِ وَالنَّزَاهَةِ، وَالوَفَاءِ بِالعَهْدِ وَصِدْقِ الوَعْدَ. وَالذِي يُقدِّرُ لِلإِنْسَانِ إِنْسَانِيَّتَهُ، وَيَحْفَظُ لَهُ كَرَامَتَهُ – خَوفًا مِنْ أَنْ يَتَحمَّلَ إِثمًا وَيَقْتَرِفَ جُرمًا وَيَرتَكِبَ ظُلمًا – هُوَ للهِ ذَاكِرٌ وَلَهُ عَابِدٌ. وَمَنْ تَقلَّدَ مَسؤولِيَّةً فَقَامَ بِهَا دُونَ إِهْمَالٍ وَتَسْوِيفٍ، أَو غِشٍّ أَو تَحْرِيفٍ، وَعَامَلَ الجَمِيعَ بِالعَدْلِ وَالإِنْصَافِ، مُتَجنِّبًا كُلَّ ظُلْمٍ وَإِجْحَافٍ؛ هُوَ للهِ ذَاكِرٌ وَلَهُ عَابِدٌ.

 وَالمُستَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ هُوَ وَحْدَهُ المُستَعَانُ، فِي كُلِّ شَأْنٍ وَوَقْتٍ وَآنٍ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-لابْنِ عَمِّهِ عَبْدِاللهِ بنِ عَبَّاسٍ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُما -: ((إِذَا سَأَلْتَ فَاسأَلِ اللهَ، وَإِذَا استَعَنْتَ فَاستَعِنْ بِاللهِ))، إِنَّ الإِنْسَانَ مَهْمَا أُوتِيَ مِنْ وَفْرَةِ مَالٍ وَكَثْرَةِ عِيَالٍ وَصِحَّةٍ وَعَافِيَةٍ عَاجِزٌ عَنِ الاستِقْلاَلِ بِجَلْبِ مَصَالِحِهِ وَدَفْعِ مَضَارِّهِ، فِي كُلِّ لَحْظَةٍ مِنْ لَحَظَاتِ لَيْـلِهِ وَنَهَارِهِ، فَالمُعَانُ مَنْ أَعَانَهُ اللهُ، وَمِنْ وَسَائِلِ حُصُولِ عَوْنِ اللهِ لِلإِنْسَانِ، إِعَانَتُهُ لأَخِيهِ الإِنْسَانِ، وَالاستِعَانَةُ بِاللهِ تَعَالَى لاَ تَعْنِي التَّواكُلَ وَالخُمُولَ وَالكَسَلَ، بَلْ تَعْنِي القُوَّةَ وَالنَّشَاطَ وَالعَمَلَ، لَقَدْ أَعَانَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ السَّيِّدَةَ مَريْمَ بَعْدَ وِلاَدَتِهَا لِعِيسَى – عَلَيْهِ السَّلاَمُ- فَأَنْزَلَ عَلَيْهَا الرُّطَبَ، وَلَكِنْ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهَا بِهَزِّ النَّخْلَةِ – رَغْمَ ضَعْـفِها- لِتُبَاشِرَ السَّبَبَ. إِنَّ تَرْكَ الاستِعَانَةِ بِاللهِ وَعَدَمَ الاعتِمَادِ عَلَيْهِ أَمْرٌ خَطِيرٌ، وَشَرٌّ مُستَطِيرٌ، وَكَيْفَ لاَ يَكُونُ كَذَلِكَ، وَهُوَ يَقْطَعُ الصِّلَةَ بِاللهِ؟ وَمَنْ انْقَطَعَتْ بِاللهِ صِلَتُهُ غَدَا عَمَلُهُ نُكْرًا، وَكَانَتْ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ خُسْرًا.

إِنَّ المُسلِمَ حِينَ يَقِفُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ فِي الصَّلاَةِ يُنَاجِيهِ وَيَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ لاَ يَفْصِلُ نَفْسَهُ عَنْ إِخْوَانِهِ، بَلْ يَجْعَلُ مِنْ نَفْسِهِ طَرَفًا مِنْ مَجْمُوعٍ، وَلِذَلِكَ أَمَرَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَقُولَ: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) لاَ: إِيَّاكَ أَعْبُدُ، ((وَإِيَّاكَ نَستَعِينُ)) لاَ: إيَّاكَ أَستَعِينُ، كَمَا أَمَرَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَلاَّ يَخُصَّ نَفْسَهُ بِسُؤالِ الخَيْرِ دُونَ غَيْرِهِ، بَلْ يَطْلُبُ الهِدَايَةَ مِنَ اللهِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، فَهُوَ يَتَوجَّهُ إِلَى اللهِ بِهَذَا الدُّعَاءِ العَظِيمِ: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ))، فَبَعْدَ أَنْ أَقَرَّ المُؤمِنُ بِأَنَّ اللهَ وَحْدَهُ هُوَ المُعِينُ كَانَ أَوَّلَ مَا يَطْلُبُ العَوْنَ فِيهِ مِنْ رَبِّهِ الكَرِيمِ الهِدَايَةُ إِلَى الصِّرَاطِ المُستَقِيمِ، فَإِنَّ مَنْ هَدَاهُ اللهُ إِلَى الصِّرَاطِ المُستَقِيمِ، لاَ يَمِيلُ عَنِ الحَقِّ أَبَدًا، وَلاَ يَزِيغُ لَحْظَةً عَنِ الهُدَى، وَمَنْ وَفَّقَهُمُ اللهُ لِلْحَقِّ فَسَلَكُوا طَرِيقَهُ وَصَلُوا إِلَى الصَّوَابِ وَاكْتَشَفُوا الحَقِيقَةَ؛ فَتَجَمَّـلُوا بِأَجْمَلِ صِفَاتٍ وَأَحْسَنِ خَلِيقَةٍ، أَمَّا الذِينَ غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَضَلُّوا عَنْ طَرِيقِ الهِدَايَةِ وَسَلَكُوا طَرِيقَ الغَوَايَةِ فعرفوا الحق وتركوه فَهُمْ يَتَخبَّطُونَ فِي كُلِّ اتِّجَاهٍ، وَمِنْ ثَمَّ لاَ يُحَقِّقُونَ فَوزًا وَلاَ يَسْعَدُونُ بِنَجَاةٍ.

 فعندما تبدأ في صلاتك فتذكَّر أنك أمام الله تبارك وتعالى، لذا فألزم نفسك بالخشوع، وأجبرها على التذلل والخضوع، ثم سمِّ الله معلناً أنك مستعينٌ به على قراءتك وعلى أداء صلاتك، ثم اشرع في تلاوة السورة الكريمة ذات الآيات العظيمة، وتدبر في معانيها يحصل لك الخشوع ويكون القبول إن شاء الله.

تذكر نعم الله عليك، تذكر أن الله قد أنعم عليك بنِعَم لا تحصى، فنعمة الإسلام، ونعمة الصحة، ونعمة الطعام والشراب، والخير العظيم.

تذكر أن هناك أقواماً من المسلمين يئنُّون  في المستشفيات وأنت في صحة وعافية، وتذكر أن هناك العديد من البيوت تعيش أياماً حزينة مليئة بالبكاء والنحيب لفقد أم أو أب أو ولد في سن الصبا أو في ريعان الشباب، تذكر المساجين والمساكين ومن قد أهلكتهم الحروب، ثم عبّر عن شكرك على نعمة الله، ثم أطلقها كلمة عظيمة: (الحمد لله رب العالمين)،

ثم أثنِ على ربك بقولك:(الرحمن الرحيم)، ثم مجّده -سبحانه- وقل: (مالك يوم الدين). ثم اعترف بالعبودية والذل والضعف بقولك: (إياك نعبد وإياك نستعين). ثم ادع بالهداية التامة قائلاً: (اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) واعلم أنك إذا قرأت الآيتين الأخيرتين من السورة فإنك قد دعوت الله بدعاء عظيم، فلذلك ناسب أن تقول بعده: آمين. يعني: اللهم استجب دعائي.