الثوابت الدينية بالمغرب

منذ أن وصلت طلائع الفاتحين الأوائل، شهدت بلاد المغرب الأقصى نقلة حضارية كبرى، إذ من الحق تعالى على أهله بنعمة الإسلام التي أخرجتهم من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام، ومن جور الناس إلى عدل الشريعة الربانية السمحة، فكانت الانطلاقة الكبرى نحو تنظيم المجتمع وبناء الدولة وعمران البلاد.

        ولما كانت عقيدة التوحيد متأسسة على قطبي رحى هما شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتنزلاتهما التشريعية المتجلية في الكتاب والسنة بلا انفكاك ولا انفصال،  فقد  اشتد تعلق أهل المغرب بصاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام فهفت

قلبوهم، واشرأبت أعناقهم، إلى وارف ظلال سنته الوريفة، وذاته المطهرة الشريفة، وحقيقته النورانية المنيفة،

وهنا جاءت المحطة الثانية الكبرى من بناء النموذج الحضاري المغربي المتميز، إذ حرص المغاربة على استحضار السر النبوي والجوهر المصطفوي، من خلال الالتفاف على رمزين كبيرين شكلا مصدر قوة هذه الأمة ووحدتها واستقامة أمرها قرونا عديدة إلى يوم الناس هذا.

أما أولهما فهو آل البيت النبوي الأطهار بدءا من مولانا إدريس الأكبر، ومولانا ادريس الأزهر قدس الله روحه، الذين حافظ وجودهم ووجود ذريتهم بين ظهراني أهل المغرب، وقيامهم بأمر السياسة الشرعية فيه، على الوحي نديا طريا في قلوب المغاربة، وعلى الشريعة منصورة ممهدة السبيل فيه، كيف لا وهم بضعة من رسول الله وأولى الناس بميراث النبوة ظاهرا وباطنا حسا ومعنى كما قال الإمام مولانا أبو العباس أحمد التيجاني رضي الله عنه.

وقد كان المغاربة في ذلك ممتثلين لأمر رسول الله ص في الحديث الذي رواه الترمذي. قال: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض و عترتي أهل بيتي و لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما.

 

 

 

 

        وبذلك تصدرت البيعة للأشراف آل  بيت رسول الله قائمة الأسس التي انبنت عليها لحمة الأمة المغربية ووحدتها، واجتماع كلمتها عبر القرون، إذ توفرت فيهم مقومات الإمامة العظمى التي أبدع أسلافنا من علماء المغرب في التأصيل لها وبيان أحكامها والحقوق المرعية لها. كالإمام سيدي عبد القادر الفاسي الفهري في كتاب الأجوبة الحسان في الخليفة والسلطان، والإمام سيدي محمد ميارة الفاسي في رسالة الإمامة، وسيدي جعفر بن ادريس الكتاني في رسالة الإمامة أيضا، مصنفات حق لها أن تكتب بماء  العيون لنفاستها وعلو طبقتها في التأصيل والاستدلال والاجتهاد الفقهي. وهم القوم الذين وجب علينا معشر علماء الشريعة الاقتداء بهم والسير على مهيعهم في الدفاع عن تلكم البيعة وترسيخها في قلوب الأمة وعقولها .

        قال الإمام سيدي محمد يوسف السنوسي: الإمامة صغرى وكبرى. فالإمامة الصغرى إمامة الصلاة ونحوها والإمامة الكبرى وهي رياسة في الدين والدنيا عامة لشخص واحد.

وقال ابن عرفة : وظاهر النصوص والأحاديث أنها إمامة لا تنقض.

وقال ابن عرفة: في الشامل حاكيا عن المازري: من ثبتت إمامته وجبت طاعته واتباعه في اجتهاده ومذهبه.

        ومقتضى كلامهم ومؤداه على وجه الإحمال: إن كان تلكم البيعة غير قابلة للنقض في حق عموم المبايعين، فكيف والمبايع بضعة من سيد الورى وأشرف الخلائق؟

        فكان ذلك صماما مضاعف الأمان، وعروة وثقى جنت بلاد المغرب ثمرتها إلى زماننا بحمد الله، ومن ثم وجب الرد على خصومها المغرضين، والحرص على استمرارها ضمانا لما لنعمة السلم والأمن والطمأنينة، فإن فيها تقوية لهيبة الأمة وشوكتها بين الأمم، وصونا لحدودها الترابية غير القابلة للتنازل ولا التراجع.

 وأما المظهر الثاني من تعلق أهل المغرب  برسول الله (ص) سنةً وذاتا وحقيقةً، فهو ارتباطهم على مستوى المرجعية التشريعية بالمدينة المنورة على ساكنها الصلاة والسلام، من خلال الالتفاف حول إمام الأئمة وعالم المدينة مالك بن أنس الأصبحي رضي الله عنه، وكتابه الموطأ، عمدة السنة لدى المحققين من أهل العلم.

 

 

 

لقد وفر كتاب الموطأ  بما اشتمل عليه من أصول الشريعة، ومن صحيح السنة ما جعله يملأ الدنيا ويشغل الناس، فانكب علماء الدين عليه شرحا وبيانا واستدلالا وتدوينا وتحشية وتدريسا وتلقينا ورواية وإجازة ومناولة وإسنادا وانتصارا ودفاعا، وتأصيلا وتفريعا،  مما أسفر عن تراث علمي غزير، لم يفد منه المسلون فحسب، بل أيضا فقهاء

 القانون في مختلف بلاد الدنيا، وتكفي الإشارة في هذا السياق على سبيل المثال.

 

لا الحصر إلى أن كتب الفقه المالكي ومدوناته ، وكتب النوازل والأجوبة والفتاوى والمسائل والأقضية تعتبر من النصوص المرجعية الكبرى لدى المشرع الفرنسي والألماني والفرنسي في القانون الجنائي والمدني.

لقد وفر هذا التراث العلمي المالكي الثر مرجعا تشريعيا رحبا للمجتمع المغربي وعلمائه وولاة الأمر فيه، استوعب جملة المستجدات الحادثات، على اختلاف التحولات التي شهدها هذا المجتمع عبر التاريخ، فكانت فيه الغنية والكفاية، إذ أغناهم عن النظر إلى سواه.

وبذلك تحققت لبلاد المغرب تلكم الوحدة المذهبية التشريعية التي تعتبر استثناء حضاريا رفيعا يغبطنا عليه أشقاؤنا مشرقا وغربا. والتي كان أسلافنا من علماء المذهب حماة لها، نذروا أنفسهم للمنافحة عنها ضد كل شذوذ فقهي، أو خروج عن إجماع الأمة،

فحري بنا مواصلة السير على مهيع الأسلاف، من خلال تبليغ رسالة الإجماع إلى عموم المخاطبين، في المساجد صونا لوحدة الأمة، ورعيا لمصالح المكلفين، ودفاعا عن سماحة الإسلام الحنيف في هذا البلد العزيز.