“الأمهــــــات” من كتب المذهب المالكي بالغرب الإسلامي

د. وداد العيدوني
مدخـــــل

تعتبر حركة التدوين والتأليف في مختلف الحضارات أهم مؤشر على مستوى النضج من الحركة الفكرية والعلمية في المجتمع البشري.
وقد ازدهرت حركة التأليف في الحضارة الإسلامية بشكل مثير للاهتمام عز نظيره في سائر الأمم.

ولما كانت بلاد الغرب الإسلامية واحدة من المراكز الحضارية الكبرى في تاريخ الإسلام، فقد عرفت خلال القرون الوسطى حركة قوية من إنتاج الوسائط المعرفية وعلى رأسها الكتاب،قراءة ،وحفظا، واستظهارا، وجمعا، وتأليفا، وتدوينا، وشرحا، وتطريرا، وتعليقا، وتهذيبا، مذاكرة، ومدارسة، إملاء، وإقراء، وإجازة، ومناولة، وسماعا، نسخا، ومقابلة، وضبطا، وتصحيحا، وتحقيقا …الخ، في مختلف العلوم والمعارف المتداولة.
غير أن ما يميز بلاد المغرب عن بقية مناطق الامتداد الجغرافي للحضارة الإسلامية، هو ذلكم الإجماع الاستثنائي الذي تحقق لدى أهلها حول مرجعية مذهب الإمام مالك بن أنس عالم دار الهجرة، باعتباره مرجعية موحدة في مختلف أضرب التشريع الفقهي في العبادات والمعاملات.
من هنا كان اشتغال المغاربة بالفقة المالكي قويا واستثنائيا بشكل جسدته حركة التأليف والتدوين في مختلف فروعه ومستويات التشريع فيه.
في إطار ذلكم التوحد والإجماع، ورغم الحركة القوية والمتنوعة المتشعبة التي تميزت بها حركة تداول العلوم والمعارف بالغرب الإسلامي بعدوتيها المغربية والأندلسية، إلا أنها استطاعت أن تحافظ على مفهوم المركزية المعرفية، ضمن إطار ما يعرف بالدوائر التخصصية، وفي مقدمتها مركز الدائرة كتاب الموطأ إذ حرص العلماء على اعتماد جملة من الكتب المرجعية تواطأوا على تسميتها بالأمهات,حسبما سنبينه لاحقا.

ويعتبر كتاب الموطأ من أهم مدونات السنة، ومن الأصول الأولى في الحديث والفقه معا1.
يقول أبو بكر ابن العربي: “هذا أول كتاب ألف في شرائع الإسلام، وهو آخره، لأنه لم يؤلف مثله، إذ بناه مالك-رحمه الله – على تمهيد الأصول للفروع، ونبه فيه على معظم أصول الفقه التي ترجع إليها مسائله وفروعه”2.
ولذلك اهتبل بروايته وخدمته علماء الأمة عبر قرون منذ تأليفه إلى اليوم، ولم يهتم المغاربة برواية مصنف حديثي اهتمامهم برواية الموطأ، فتبنوه وجعلوه عمدتهم ومرجعهم، ولم يزل في انتشار واشتهار حتى غطى على غيره من أمهات كتب السنة والفقه.
فمنهم من ألف في مسنده، ومنهم من شرحه أو شرح غريبه، ومنهم من تكلم في رجاله، ومنهم من خرج أحكامه ونصوصه.

وإلى جانب الموطأ “الأصل الأول و اللباب” كما وصفه أبو بكر بن العربي المعافري3 ألف بعض أئمة المذهب جملة من الكتب حصل تواطؤ بعد ذلك على اعتبارها بيانا وتفصيلا لفقه الموطأ، فتم اعتمادها كأمهات مرجعية فقهية راجحة فيما تضمنته من آراء وسماعات واجتهادات. وهي:

– المدونـة الكبرى: للإمام سحنون بن سعيد التنوخي المتوفى سنة240هـ. من أجل كتب المذهب وعمدته، إذ هي أول تأليف شامل لفروع الفقه المالكي. تتكون من 74 كتابا أولها كتاب الوضوء فالصلاة فالزكاة … وآخرها كتاب الديات. فجاءت مشتملة على ثلاثين ألف ومائتي مسألة.
ضم فيها سحنون مسائل الأسدية، ومسائل رواها سحنون عن ابن القاسم عن مالك، وزاد عليها كما قال عياض “من آراء كبار أصحاب مالك ما اختار ذكره”4، محتجا كما ذكر الحطاب:”لمسائلها بالآثار من روايته لموطأ ابن وهب”5. مشفوعة بالعدد الجم من آرائه واجتهاداته.
وهي تعد ثمرة مجهود ثلاثة من الأئمة مالك بإجاباته وابن القاسم بقياساته وزياداته وسحنون بتهذيبه وتنقيحه وتبويبه وبعض إضافاته 6

ـ الواضحة: لعبد الملك بن حبيب القرطبي (ت238هـ). إمام المذهب المالكي بالأندلس بعد يحيى بن يحيى. يعتبر كتاب الواضحة من أمهات كتب المذهب، قل إنه لم يؤلف مثله. وذهب بعض القدماء إلى أنه أنفع كتاب في الفقه المالكي لطالب العلم في تحصيل أصول المذهب وفروعه.
قال العتبي:” رحم الله عبد الملك، ما أعلم أحدا ألف على مذهب أهل المدينة تأليفه، ولا لطالب العلم أنفع من كتبه، ولا أحسن من اختياره”7.
قال ابن حيان:” وكان لكتابه الفقهي الواضحة انتشار عظيم في الأندلس وإفريقية و المغرب”8.

– العتبية (كتاب المستخرجة من الأسمعة): لمحمد بن أحمد العتبي الأندلسي المتوفى سنة 254 هـ. إمام الأئمة وحجة المذهب المالكي. وقد سمي الكتاب بالمستخرجة لأنّه استخرجها من الأسمعة التي رويت عن مالك بواسطة تلاميذه وتلاميذهم9، وأغلبها من سماع ابن القاسم وأشهب وابن نافع عن مالك. وسماع عيسى بن دينار ،ويحيى بن يحيى الليثي، وسحنون ،وموسى بن معاوية، وأصبغ وزونان وغيرهم عن ابن القاسم .

وقد كان لها “القدر العالي والطيران الحثيث” كما يقول عياض10 . وقد قام بالجمع بين رواياتها وتهذيبها الإمام ابن رشد الجد في كتاب البيان و التحصيل.

4- الموازية: لمحمد ابن إبراهيم المعروف بابن المواز المتوفى سنة 269هـ: تعتبر الموازية من أشهر كتب الفقه في الغرب الإسلامي ورابعة الأمهات والمدونات، وذهب القاضي عياض إلى أنه “أجل كتاب ألفه قدماء المالكيين، وأصحه مسائل، وأبسطه كلاما، وأوعبه”11.
وهي كتاب فقهي عمد فيه المؤلف إلى:” بناء فروع أصحاب المذهب على أصولهم في تصنيفه” 12، وهو منهج لم يسبق إليه، لأن: “غيره إنما قصد لجمع الروايات، ونقل منصوص السماعات، ومنهم من تنقل عنه الاختيارات في شروحات أفردها، وجوابات لمسائل سئل عنها، ومنهم من كان قصده الذب عن المذهب فيما فيه الخلاف”13.
وإذا كان الموطأ الأصل المرجعي الأول المجمع عليه في المذهب المالكي لدى أهل الغرب الإسلامي ، فإن هذه الكتب الأمهات تمثل في الحقيقة مصنفات مرجعية تفصيلية توالت بعد ذلك جهود علماء المغرب في شرحها وتهذيبها و اختصارها و تقنينها و تقعيدها و الاستنباط منها… وهي في الوقت ذاته تمثل كنوزا وذخائر وإضاءات ضمنت استمرارالمذهب المالكي وبقاءه إلى يومنا هذا.

البيبليوغرافيا:

-ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك :عياض بن موسى اليحصبي تعليق : محمد بن تاويت الطجي- طبعة وزارة الأوقاف المغربية – الرباط –
-تهذيب التهذيب : ابن حجرالعسقلاني –طبعة الهند-طبعة-1327هـ.
-الجرح والتعديل : ابن أبي حاتم أبو محمد عبد الرحمان –دار الكتب العلمية –بيروت ط1-1952.
-الثقات : ابن حبان السبتي –دار المعارف العثمانية –ط1-1973.
-القبس في شرح موطأ مالك بن أنس: أبو بكر بن العربي -دراسة وتحقيق محمد عبد الله ولد كريم –دار الغرب الإسلامي –لبنان -1992.
– عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي: أبو بكر بن العربي – دار الكتب العلمية بيروت.
-مباحث في المذهب المالكي بالمغرب لعمر الجيدي، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى،  سنة النشر 1993م،   ص : 66.
– المقتبس لابن حيان القرطبي – تحقيق:محمود مكي –دار الكتاب العربي –بيروت .
– مواهب الجليل : الحطاب –طبعة1- السعادة-1328هـ.