خطبة الجمعة والانفتاح على قضايا العصر

د. عبد الخالق أحمدون

لقد كان للكلمة – ولا يزال- أثرها الفاعل، وقيمتها الكبرى، ودورها الحاسم في عمليات التغيير الإنساني على صعيد الدين، والعلم، والفكر، والسياسة، والاقتصاد، والاجتماع .. فالكلمة هي وعاء المعنى، ورسوله إلى القلوب والعقول، وهي القناة التي يتفاهم من خلالها البشر، ويتناقلون الآراء والأفكار. وكلما تقدمت الحياة وتطورت معارفها، ازدادت قيمة الكلمة في حياتنا وازداد دورها خطورة .

والإسلام – دين الإنسان في كل زمان ومكان- لم يغفل دور الكلمة، بل وضعها في إطارها الصحيح، واهتم بها الاهتمام اللائق، فجعلها الوسيلة لهداية الناس، وتربية الأمة، وتوعية المجتمع، وصياغة الإنسان الإيجابي الصالح.

وإمعاناً منه في توظيف الكلمة، كانت الخطابة إحدى الركائز الأساسية والوسائل المهمة في الدعوة إلى الله تعالى ، فالخطابة في الإسلام تمثل مظهر الحياة التي تجعل القيم النبيلة والمثل الرفيعة والأخلاق الفاضلة تصل من قلب إلى قلب ومن فكر إلى فكر ، فتنتعش الروح ويتجدد الإيمان ، فلا غرو أن تكون بذلك خطبة الجمعة التي تسبق صلاة الجمعة المفروضة كل أسبوع، من شعائر الإسلام الثابتة، وعبادة يثاب عليها المسلم.

لقد لعبت خطبة الجمعة دوراً كبيراً في المسيرة الإسلامية الطويلة، فمن خلال هذا المنبر الإسلامي الذي انتشر في ديار الإسلام طرحت مفاهيم العقيدة، وتعاليم الشريعة، وِسيرَ الأنبياء والصالحين والمجاهدين.. ومن خلال هذا المنبر الحي المتجدد عولجت المشاكل التي كانت تستجد في كل عصر ومصر، وطرحت الحلول المناسبة.. ومن خلال هذا المنبر الأسبوعي الذي لا يتخلف استطاع الخطباء البارعون الصادقون أن يبعثوا في النفوس روح الجهاد ضد الغزاة والمارقين الذين عانت الأمة منهم عبر تاريخها الكثير.. ومن خلال هذا المنبر الدعوي المؤثر استقبل المسجد أفواجاً من التائبين الذين بدأوا رحلة التزامهم من صلاة الجمعة؛ فكانت الخطبة ؛ دعماً وترسيخاً لمشاعر الهداية التي استيقظت في أعماقهم التائبة .

واستمرت الخطبة عبر القرون شعيرة خالدة ومعلماً بارزاً من معالم المجتمع الإسلامي، حافظ على استمراريته في أسوأ الأيام التي مرت بعالمنا الإسلامي، حتى في هذا العصر الذي تخلف فيه المسلمون، ظلت خطبة الجمعة منبراً صامداً للإسلام تفيء إليه الجماهير المسلمة من قيظ الفساد والضياع والانحراف الذي يلّوث حياتها، وظل صوت الخطباء المسلمين عالياً يصدع كل أسبوع بكلمات الحق، ويذكر المسلمين بأيام الإسلام المجيدة وعزهم المفقود، ويروي للأجيال أخبار من قضوا على دروب الجهاد وحملوا مشاعل الهداية والنور، ويحذر من الأخطار المحدقة بالأمة والتحديات الكبرى التي تنتظرها .

إن خطبة الجمعة لا تزال قائمة في عالمنا الإسلامي، والمساجد تتزايد باستمرار فتتزايد معها المنابر الإسلامية، لكن هذه المنابر لمّ تستثمر حتى الآن الاستثمار الكافي، والخطباء الذين يتحدثون من خلالها ليس أكثرهم – مع احترامنا وتقديرنا للجميع- على مستوى الخطابة بمعناها الصحيح، بل قد تجد فيهم – للأسف الشديد- من لا يدرك معنى الخطابة كفنّ من فنون الدعاية والإعلام، ومن يتصور أن الخطبة هي مخاطبة الناس من علٍ بصوت مرتفع، دون أن يعلم خطورة المنبر الذي يعتليه، وهكذا تطالعك على المنابر أنماط متباينة من خطباء الجمعة، قد يصل تباينها إلى حدّ التناقض الحادّ .

فالخطابة فن يحتاج إلى مواهب خاصة، وخصائص هامة ليس أولها الصوت القوي المؤثر، والقدرة على الإقناع واستمالة الحضور، والتعبير بالحواسّ مع الكلمات، ومخاطبة العقل والقلب في آن معاً، ومناسبة لهجة الإلقاء للمعاني، وليس آخرها وحدة الموضوع، وموضوعية الطرح، وترابط الأفكار، واستخدام الجمل القصيرة المعبرة، والألفاظ المألوفة .
بل الخطابة تحتاج أيضاً إلى ثقافة واسعةٍ في أمور الدين والمجتمع، وفهم دقيق لشرائح الناس الذين يترددون على المسجد وطبقاتهم الفكرية، وأحوالهم الاجتماعية، وظروفهم المعيشية، فلا حياة لإعلام لا يعيش مشاكل الجماهير وقضاياها، ولا أثر لخطبة لا تلامس أعماق الناس الوجدانية والفكرية والاجتماعية، فليحذر خطباؤنا من تحويل منابرنا إلى أبراج عاجية تحجبهم عن جمهورهم المسلم، وتبعدهم عن أوجاعه الحقيقية وواقعه المعيش.

إن خطبة الجمعة منبر دعوي هام، ووسيلة ممتازة لتذكير الناس بأمور دينهم وعقيدتهم، ونافذة واسعة لعرض الإسلام بنصاعته الكاملة، وتوعية المسلمين بالمرحلة التي يعيشونها، وبالأخطار والتحديات التي تحيط بهم. وحتى يستثمر الخطيب منبر الجمعة الاستثمار الأكمل عليه أن يطرح المواضيع ضمن منهج متوازن شامل يغطي المعاني والأفكار كلها التي يجب على المسلم أن يهتم بها.

فهناك من الخطباء من يهمل في موضوعاته أحداث الساعة التي تمسّ واقع المسلمين ووجودهم ومستقبلهم، فلا يجد الجمهور المسلم في خطبته متنفساً لمشاعره العارمة وآلامه الغائرة، فيستمع إلى الخطبة دون أن يتفاعل معها.

إن منبر الجمعة منبر دعوي يجب أن يوجه لهداية الناس، وتعميق الإيمان والتقوى في نفوسهم، وتنمية روح العمل والإخلاص، لكن بعض المسلمين للأسف يصّرون على نقل خلافاتهم الحزبية، والفكرية والفقهية، والشخصية أحياناً، إلى المنابر ليشغلوا الجماهير المسلمة بقضايا هامشية، أو شكلية، أو اجتهادية، أو شخصية، وليزرعوا في نفوسهم الإحباط واليأس من الواقع الإسلامي المتدهور .

وأهمية الخطبة وآثارها تكمن فيما يأتي:

1- قيام الخطبة بنصيب ضخم في تثقيف الأمة وترشيد نهضتها ودعم كيانها المادي والأدبي ووصل غدها المأمول بماضيها المجيد.
2- تحريك العقول، وبعث الثقة في النفوس للدفاع عن فكرة معينة، أو النهوض بمهمة معينة.
3- تقوي الإيمان وترقق الأفئدة وتزكي المشاعر وتجعل الناس قريبين من ربهم وخالقهم سبحانه.
4- تؤدي إلى تغيير الآراء والقناعات الفكرية الخاطئة.
5- تفتح أبواب الأمل والتوبة في وجه العصاة والمذنبين.
6- تساهم في تغيير العادات السيئة وتحدث أثرا جيدا في تحسين أخلاقيات الفرد والمجتمع.

ولما كان للخطبة مثل هذا الأثر الكبير ، فإن الخطيب اليوم أحوج ما يكون إلى مراجعة أدائه لهذه الشعيرة مراجعة تمكنه من الارتقاء بموضوع الخطبة ومستوى الخطاب، وصولاً إلى أن يكون خطابه خطابا متميزا مرتبطا بالأصل قادرا على استيعاب العصر، متدفقا بالعطاء والحيوية والتجدد دائما.

إن الرسالة التي يضطلع بها الخطيب عظيمة وأمانة التبليغ ثقيلة ، تثقل كاهله وهو يتوجه بالكلمة إلى شرائح مختلفة من الناس في المجتمع ، وفي مقدمتهم الشباب المثقف الذي يحمل في نفسه أسئلة العصر ، وتشغل باله قضية «الإسلام ومتطلبات العصر»، وذلك من منطلق أن الخطيب الناجح أو مقومات الخطبة الناجحة هي التي تمس واقع الناس وتتصل بالعصر وتنفتح على قضاياه الشاغلة . وقد أكد المرسوم رقم 206 .07. 2 الصادر في 5 رجب 1429 هـ موافق 9 يوليوز 2005 بإحداث جائزة المجلس العلمي الأعلى للخطبة المنبرية تمنح سنويا لأحسن خطيب على المستوى الوطني على هذا المعيار ، حينما نص في المادة الخامسة منه على أنه ” يشترط لنيل جائزة المجلس العلمي الأعلى الوطنية للخطبة المنبرية ما يلي : … 3 ـ أن يتناول في خطبه اهتمامات المجتمع وقضايا العصر ” .

فالخطيب الناجح هو الذي يحرص على ربط الحياة الاجتماعية المعاصرة بأدب الإسلام الرفيع وأحكامه السامية وقيمه المضيئة وثقافته الخصبة ليؤدي في المجتمعات دوره الأخلاقي والفكري والسلوكي الزاهي . فليس في الإسلام جمود وعجز أو رغبة في العيش في الظلام أو خوف من المتاعب والمصاعب، بل إن الإسلام يدفع الإنسان إلى الحياة كما يجب أن تكون بالسعي والجهد والعرق والقدرة والعطاء والنشاط والعمل وفسحة الأمل والرغبة في العيش في النور.

إن ثقتنا المطلقة بالإسلام تجعلنا أكثر تفاؤلا وتجعلنا نحكم مقدما على أن الإسلام قادر على حل كل معضلة ومواجهة كل مشكلة تطرأ في حياة الإنسان، وهذا يفرض على الفقهاء والعلماء إن يوطنوا أنفسهم ويوطدوا العزم وهم أكثر تفاؤلا بإسعاد أمتهم في المستقبل.

من المؤكد أن هناك حاجة ماسة إلى التطوير والتجديد في أساليب الدعوة والتبليغ ، ولكن بما يفتح أفق الإسلام على راهنية الزمن ، وبما يمكنه من تعزيز دوره وحضوره في هذا العالم ، بدل محاولات الالتفاف عليه وتعويق حركته ، وهذا يحتاج إلى فتح باب الاجتهاد على مصراعيه في اتجاهين وليس في اتجاه واحد، الاجتهاد في قضايا الإسلام، و الاجتهاد فيما يرد علينا من “فكر الحداثة” مغلفا بادعاءات كونية لا علاقة لها بالواقع.

إن جماهير الأمة المسلمة اليوم تتطلع إلى خطاب أصيل وعصري، يقبس من مشكاة الوحي، ويتابع خطوات الحياة، ويسلط أشعة الشريعة الغراء على قضايا العصر ومستجدات الأحداث ومتغيرات الواقع التي يقف المسلم إزاءها في حيرة بين القبول والرفض، ويعالج كل هذه القضايا بروح من وسطية الإسلام وشموليته، وتميز منهجه في الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وتفرد قواعده الأصولية وأحكامه الفقهية في القدرة على وصف واستنباط الحلول لمشاكل الحياة البشرية كلها .

ولا شك أن هذا الخطاب لا يتأتى إلا لمن تعاهد نفسه بالتثقيف المستمر، واعتنى بالقراءة والمتابعة والاطلاع . ويزداد هذا الأمر توكيدا حين نعي تمام الوعي أن الغرب اليوم بما يملك من إمكانيات مادية كبيرة، وتقنية عالية المستوى والكفاءة، يصدر إلينا ثقافته وفكره وفلسفته عن الإنسان والمجتمع والكون، وأن الثقافة الإسلامية بما تحمله من رسالة عالمية لكل الناس، وفي كل زمان ومكان، وبما تتميز به من خصائص وسمات تجعلها قادرة على التفاعل مع تطورات العصر ومنجزاته ، وإن الإسلام اليوم بحاجة ماسة إلى دعاة يحسنون عرض أفكاره وقيمه ومثله ومبادئه وأخلاقه، بأسلوب جذاب وشيق وجميل، كي يقبل الناس، على ثقافة الإسلام وفكره، انطلاقاً من قوله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) النحل/125

فهناك أمران متلازمان :

الأول: ضرورة المعرفة الصحيحة للإسلام الحقيقي كدين وفلسفة اجتماعية ، ونظام فكري وعقائدي بنّاء وشامل، وباعث على السعادة.

الثاني: ضرورة معرفة ظروف العصر ومتطلباته، والتفريق بين ما هو ناشئ عن التطور العلمي والصناعي، وبين ظواهر الانحراف وأسباب الفساد والانحطاط. ونحن علينا _ من هذا المنطلق _ أن نتعرّف على الإسلام بوصفه دليلاً في السفر كالبوصلة، ومرساة ثابتةً تعصمنا من الغرق خلال المدّ والجزر، ونتعرف كذلك على الظروف الخاصّة لكل عصر بوصفها منازل على الطريق ينبغي الوصول إليها أو المرور عليها تباعاً، حتى نستطيع أن نصل إلى غايتنا المنشودة في محيط الحياة المتلاطم.

ونحن لا ننكر وجود أفراد وجماعات ينظرون إلى القضية وكأنها محيّرة، معتقدين أنّ «الإسلام» و«متطلبات العصر» نقيضان لا يجتمعان، ووجودان لا ينسجمان، ولا بد إذاً من اختيار أحدهما، فإمّا أن نتمسك بالإسلام وتعاليمه مبتعدين عن كل نوع من أنواع التحديث والتجديد، ومعطّلين الزمن عن حركته التطورية، وإمّا أن نستسلم لمتطلّبات العصر التي هي في تطوّر مستمر، قاطعين كل صلة بالإسلام باعتباره ظاهرة تتعلق بالماضي السحيق، واضعين إياه في ملفات التاريخ القديمة، في إطار من منطلق خاطئ وهو استحالة ربط الثابت بالمتغير. وهذا يحمل في طيّاته مغالطةً كبيرة من جهتين :

أولا : على صعيد الإسلام، فخلود قوانينه وثباتها، هو أمر مفروغ منه، بل هومن ضروريات الإسلام، مع صفة المرونة التي تخصّ نظامه التشريعي، والتي يتحلى بها الإسلام ذاتياً بحكم طبيعته الحركية الفاعلة، التي هي من خصائص نظامه التشريعي. ولقد أثارت عظمة الفقه الإسلامي في قابليته الفذّة على تلبية حاجات كلِّ عصر إعجاب البشرية جمعاء، علماً أنَّ المسائل المستجدّة لا تخصُّ عصرنا فحسب، بل كانت تظهر في كل عصر منذ بزوغ فجر الإسلام ، حيث كانت الحضارة الإسلامية في توسع مضطرد، يتمخض عنه مسائل مستحدثة وحاجات مستجدة، أدّى الفقه الإسلامي خلالها دوره الخطير ، محافظاً على أصالته دون الاستعانة بمصادر أخرى. وإنّ فقدان التوجّه الإسلامي الهادف خلال القرون الأخيرة ، وانبهار المسلمين بتقدم الغرب وتطوره من جهة أخرى، قد أفضيا إلى التصور الموهوم بأنّ الإسلام لا يصلح لعصرنا الجديد هذا.

ثانيا : وأما على صعيد متطلبات العصر: فإنّ المغالطة فيها تكمن في اعتبار الزمن قادراً على أن يبلي كل شيء بما فيها الحقائق الكونية الثابتة، في حين أن الذي يبلى ويتجدد في الزمن هو المادة والتركيبات المادية، مثل الجماد، النبات، الحيوان، الإنسان.. وهذه كلها محكومة بالفناء والزوال، أما الحقائق الكونية فهي ثابتة لا تتغير.

وبالمحصلة ، فإنّ الإسلام طريق، وليس منـزلاً على الطريق، أو موقفاً من مواقفه، وقد عبّر عن نفسه بنفسه بأنه الصراط المستقيم، فمن الخطأ إحداث تغيير في هذا الطريق بسبب تغيير منازله، وذلك لأن لكلّ حركة منظّمة عنصرين أساسيين هما: التغيير، وهذا يحصل في المواقف على التوالي، والثبات وهو صفة الطريق ومحور الحركة.

ومن هذا المنطلق كان تداول العلماء لمصطلح “فقه الواقع” كضرورة حياتية ، والتركيب ( فقه الواقع ) معناه : فهم الأمور الحادثة والوقائع النازلة .

ومن الناحية الاصطلاحية صار هذا التركيب له دلالة خاصة تجمع بين الفقه بمعناه العام وهو الفهم، ومعناه الخاص المتعلق بمعرفة الأحكام الشرعية من الأدلة النصية، وإذا أضيف إلى الواقع أصبح المراد:” فهم النوازل والمتغيرات الجديدة في الحياة والأفراد والمجتمعات وتصورها معرفة حكمها في الشريعة الإسلامية “
ويعتبر المصطلح مهماً لعدة أسباب :

1- أهمية اليقين بلزوم تحكيم الشريعة في سائر جوانب الحياة وجميع نشاطات المسلمين .
2- التأكيد على صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان في سماحة ويسر .
3- تحقيق المعايير الإيجابية المرتبطة بالأصول الثوابت، والمستوعبة للمستجدات والنوازل.
4- التأكيد على مراعاة اختلاف الأحوال والظروف والأوصاف والأحكام .

وهذا يدخل في صميم طبيعة الواجب وقداسة المهمة وعظم المسؤولية التي يضطلع بها من تصدى للوعظ وانبرى للخطابة؛ حيث تفرض عليه أن يكون بصير القلب منفتح اللب، فصاحب القلب المبصر والعقل المستبصر أقدر على تشخيص العلة ومعرفة دوائها واتخاذ أفضل الوسائل لعلاجها.

وإزاء ما تعانيه الأمة من جهل بالإسلام، وبعد عن تمثل روحه وفهم رسالته، وتخلف عن الالتزام بمنهجه الشرعي والأخلاقي في الحياة، إضافة إلى حجم التحديات القائمة في وجهه، وشراسة الحرب المعلنة عليه؛ إزاء ذلك كله، فإن ثقل الواجب الملقى على عاتق الدعاة إليه، ومنهم العاملون في الخطابة والوعظ في المساجد، يزداد ويكبر ليوازي حجم تلك التحديات الجسيمة والحرب اللئيمة، مما يستدعي أن لا تنحصر ثقافة الداعية المسلم في حدود تحصيله للعلم الشرعي فحسب، وإنما تتجاوزه إلى الإلمام بثقافة العصر والاطلاع على ما أمكنه من علوم زمانه، ليكون ذلك كله مكملاً لثقافته الشرعية، ومعيناً على استكمال متطلبات القيام بواجب الوعظ والإرشاد والدعوة إلى الإسلام العظيم.

وكما أن التحصيل الشرعي كان بالقراءة، فإن إتمام دور هذا التحصيل، وإكمال دائرته حتى يشرق نوره على كل ما حوله؛ لن يكون إلا بنشاط واجتهاد ووسائل ، وتشكل القراءة واحدة من أعظم قواعدها وأمكن أسسها.

فلن يملك الواعظ والخطيب أن يكون معالجاً للواقع المريض إلا بمعرفة أمراضه وكشف أسبابها ووصف أدويتها، ولن يكون مصلحاً في الناس ولا مؤثراً في نفوسهم ولا مقنعاً لهم إلا بالعلم والحكمة والوعي؛ تلك التي تجتمع في إطار ثقافة خاصة لا يكتمل تحصيلها بغير القراءة الواعية المستمرة.

وهذه الثقافة؛ ستكون سلاحه الذي يواجه به جهل الناس بقيم الإسلام وأحكامه، وانشغالهم المفرط بشؤون دنياهم عن أمور دينهم، وغفلتهم عن اتخاذ الإسلام أساساً لإصلاح الواقع وبناء المستقبل. وستكون هذه الثقافة عوناً له على حسن النظر في سطور كتاب الواقع الذي تتلاحق فيه أنفاس الحياة، وتتعاقب فيه المستجدات والمتغيرات، وتدور فيه عجلة الأحداث بسرعة لا تمهل حملة الدعوة وصناع الرأي وفرسان التوعية والتذكير.

وإن غياب هذه الثقافة سيجعل الواعظ والخطيب معزولاً عن الواقع، يحلِّق وحيداً في أجواء خالية، ويدور في حلقة مغلقة، بعيداً عن إدراك حاجة المجتمع، وتحديد مستلزمات الإصلاح، وتحقيق رسالة الوعظ، والقيام بواجب التوعية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وإنه لمما يثير الأسف أن فئة من الخطباء والوعاظ يكتفون بما حصَّلوا من علم شرعي، ولا يحاولون استكمال بعض النقص الظاهر في كفايتهم العلمية وأدائهم العملي، ويقفون من العلم عند حدهم ولا يتجاوزونه إلى الاستزادة من العلوم الأخرى والثقافة العامة، بل ربما قصروا في مذاكرة ما حصَّلوا من العلم الشرعي نفسه، فانعكس ذلك على خطابهم ووعظهم؛ ضعفاً ظاهراً عند بعضهم في اللغة إلى حدٍّ يزري بصاحبه، ونقصاً ملحوظاً لدى آخرين في إتقان أساليب التوصيل والعرض والإقناع، واضطراباً لدى بعض منهم في تناول قضايا عصرية معينة، مما يشي بضحالة فكرية وفقر ثقافي، وتقصير في واجب الإعداد العلمي لخطبته والتحضير المنهجي لدرسه وموعظته.

وقد نتج عن ذلك أن انعكس فقر خطابهم الوعظي وضعفه على المستمعين والمصلِّين، فمن جمهورهم من استسلم للأمر الواقع على مضض، ورضي بأن يكون مع الأغلبية الصامتة، ومنهم من رفع عقيرته بالاحتجاج، وعبَّر عن امتعاضه بالشكوى المسموعة، ومنهم من شدَّ الرحال إلى مساجد أخرى يبحث عن خطاب أكثر تأثيراً وإقناعاً .
ولذلك فإن على الواعظ والخطيب أن يصاحب الكتاب، وأن لا يجفو القراءة، وعليه أن يستزيد من العلم، ويزاول الاطلاع على المصادر الثقافية العصرية، ولا سيما المجلات والدوريات التي تعتبر من أهم روافد الوعي بالحاضر ونوافذ الاطلاع على واقع الحياة.

ومما يقتضيه الإنصاف أن نشهد بأن نفراً من الخطباء والوعاظ، سمت بهم همتهم ووطَّنوا أنفسهم على القراءة والبحث والاستزادة من العلم؛ ليؤدوا واجبهم على أكمل وجه، فسدّوا ثغرتهم وأحسنوا أداءهم، وارتقى خطابهم إلى درجة التأثير وإحداث التغيير في نفوس الكثيرين من الناس، فتزايد جمهورهم وكثر محبوهم. وقد استحق هؤلاء المتميزون من الخطباء والوعاظ أن تسجل خطبهم ومواعظهم على الأشرطة يتداولها الناس، وأن تنشر دروسهم ومواعظهم في كتب مستقلة .

ونغتنمها مناسبة لنتوجه إلى السادة الخطباء والوعاظ، ونهمس في آذان هذه الصفوة القيادية التي تسنَّمت موقعاً رياديّاً مرموقاً؛ وتبوأت بإرشادها ومواعظها مقاماً قياديّاً متقدماً في حياة المجتمع. فنقول: اقرؤوا ؛ فإن الأمة تنتظر قطوف قراءتكم، اقرؤوا بالعين والعقل والقلب، فالقراءة طاقة معرفية تحرك العقل وتمد مساحة الوعي الفكري بزاد متجدد، وهي نمو يمضي بالإنسان نحو النضج العقلي والروحي والأخلاقي والاجتماعي. إن القراءة حركة إلى الأمام؛ ندرك بها مسيرة الحياة، ونطَّلع بها على متغيرات العصر.
اقرؤوا لأن القراءة تنوير للذهن، وإضاءة لأجواء النفس، تعين على كشف خفاياها ومعرفة مزاياها وإدراك عيوبها، ولأن القراءة فتح لمغاليق البصيرة، وسبر لأغوار الطريق، واستكشاف لآفاق المجهول.

اقرؤوا لأن القراءة قوة للعقل وزاد للروح وإرواء للقلب، ولأنها عبادة لله تعالى وقربة نؤجر عليها إذا صدقت النية وصح القصد، إذ هي استجابة لأول أمر إلهي نزل في القرآن الكريم {اقرأ باسم ربك الذي خلق} [العلق:1]. اقرؤوا فالقراءة استزادة من العلم {وقل رب زدني علماً} [طه:114] ، وهي تمرين فكري يسمو بإنسانيتنا إلى مستوى الفهم عن الله تعالى.
فالقراءة تصفية لعدسة التأمل {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض} [آل عمران:191]، وتنمية لملكات التصوير والتحليل والمقارنة، وتجلية لعين الكشف، وتقوية لملكة الاستنباط، وتوسيع لدائرة الرؤية، {اقرأ وربك الأكرم. الذي علَّم بالقلم. علَّم الإنسان ما لم يعلم} [العلق: 3-5]. اقرؤوا لتتجددوا، ولتجدِّدوا غيركم، ولتتغيروا وتكونوا سبباً في التغيير المنشود: {إن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم} [الرعد:11].

إن موضوع الخطبة هو لبها وروحها، وبحسب الموضوع يكون أثر الخطبة، والخطيب الذي يُقَدِّرُ سامعيه ويحترمهم ويقدر أوقاتهم ويضَنُّ بها أن تضيع في غير فائدة يحرص غاية الحرص على موضوع الخطبة، ويجتهد غاية الاجتهاد في أن يكون موضوعها نافعًا للناس.

ويتبدَّى فقه الخطيب وحسن اختياره إذا استطاع بحنكته ومهارته وتبصره أن يلامس قضايا العصر الكثيرة والمتشعبة بفكر ثاقب ووعي متبصر ، ويواكب تطورات العصر عموما ، ومختلف الأحداث والوقائع التي تنبض بها الحياة من حوله دولياً وإقليميا .

و هذه نماذج من قضايا العصر على سبيل المثال لا الحصر :

• الدين والتدين، وعطاء الأديان في خدمة الإنسان،
• التسامح في الإسلام،و التعارف بين الشعوب،
• الشباب أمام الماضي والحاضر والمستقبل،
• قضايا المرأة و أمن الأسرة والأطفال،
• استراتيجية الإسلام ضد ظاهرة الفقر،
• المواطنة الحقة
• التنمية بأبعادها المختلفة
• قضايا التعليم والتربية وأهمية مجتمع المعرفة
• الترقية الروحية وتزكية النفس وعلاجها من الأمراض الخطيرة
• الأمن والوسطية والحوار بين الثقافات
• مقاصد الشريعة وضرورات العصر
• العنف ومظاهره وسبل علاجه
• الأسرة وأسس تماسكها
• الغلو والتطرف وآثارهما السلبية
• حفظ الصحة (التخين ، المخدرات ، الفساد والزنا ، والأمراض المعدية)
• حقوق الإنسان في الإسلام
• حقوق المرأة والطفل في الإسلام
• الردة والتشكيك في العقيدة ومحاربة ظاهرة التنصير
• الإحسان والتكافل الاجتماعي والعمل التطوعي
• حماية البيئة بمكوناتها المختلفة كمظهر من مظاهر التكريم الإلهي للإنسان
• المستهلك وسبل حمايته
• المجتمع المدني والتزاماته

ومن المناسب هنا أن نذكر بما ينبغي على القائمين على الخطابة والدعوة مراعاته:

– إن مجال التطبيق يحتاج إلى حذر شديد ، لأن الجمود فيه -مثل التسيب سواء بسواء- عمل على عكس ما يريده الشرع؛ لذلك يعيب ابن القيم على أناس تشددوا هنا “فسدوا على أنفسهم طرقًا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له، مع علمهم وعلم غيرهم قطعًا أنها حق مطابق للواقع، ظنًّا منهم منافاتها لقواعد الشرع، ولعمر الله، إنها لم تناف ما جاء به الرسول، وإن نفت ما فهموه هم من شريعته باجتهادهم، والذي أوجب لهم ذلك: نوع تقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع وتنزيل أحدهما على الآخر”.

– المحافظة على الثوابت الدينية التي هي بالأساس القيم المنصوص عليها في القرآن والسنة. وتبقى وسائل تنزيل تلك القيم في الواقع مفتوحة في الغالب الأعم لإبداع الأمة واجتهاداتها التي تختلف من عصر إلى عصر ومن بيئة إلى بيئة.

– العمل بطريقة منظمة ومتدرجة ورفيقة تراعي الواقع، وتحاول الارتفاع به إلى النموذج المأمول في تدرج، وعلى قدر الوسع والاستطاعة، ودون هزة عنيفة، ويروي لنا التاريخ أن الخليفة عمر بن عبد العزيز طلب منه ابنه عبد الملك يومًا أن يقضي على المظالم والمفاسد المتراكمة دفعةً واحدةً، دون تأخر مهما تكن النتائج، قائلاً له: “ما لك لا تنفذ الأمور، فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق”. ولكن عمر بن عبد العزيز أوضح ذلك قائلاً: “لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة. وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة”.

– إشاعة المودة وبناء العلاقات الإيجابية، والابتعاد عن التعصب والأحقاد، وتوفير الثقة في الآخرين وإحسان التعامل معهم. وهذه كلها سمات لها دور مهم في بناء أحوال المجتمع على الطمأنينة والشعور بالاستقرار، والتفرغ بالتالي للإنجاز والعطاء.

– القدرة على التعامل بنجاح مع الأزمات التي تواجه المجتمع والقدرة على إدارة الصراعات القائمة داخل المجتمع بشكلٍ يستطيع من خلاله أن يتمكن من القيام بما يلزم من تغييراتٍ للاستجابة للحد الأدنى من متطلبات الشرع.

– الابتعاد عن خطاب المزايدة السياسية الذي ينطلق من خلفية الإقصاء والاستئصال، مما يؤدي عادة إلى تسميم الأجواء ونشر التدابر والتنافر والصراع عوض التآلف والتكامل والتنافس الإيجابي. وزرع الثقة وإيجاد أجواء صحية للتنافس تسهم في تهيئة مناخ التوافق بين الفاعلين مما يعزز الاستقرار والعمل.

وفي الختام أقترح على أنظاركم السديدة إحداث لجنة علمية من الوعاظ والخطباء بإشراف المجلس العلمي وتنسيق مع المندوبية الجهوية للشؤون الإسلامية لإعداد دليل موجه يتضمن برنامجا سنويا للخطبة والوعظ ، نستطيع من خلاله توحيد الرؤية والاختيار وتنظيم العمل الدعوي بالمدينة ، وفق منظور يستجيب لقضايا العصر.
وفقكم الله وسدد خطاكم وأنار طريقكم على الخير و الهدى والنصيحة والنفع العام .والسلام عليكم ورحمة الله .